أديب كمال الدين و"مواقف الألف"

د. حسن ناظم

 

 

 

 

أسرار الشاعر

***********


يسيّرُ الشاعرُ أديب كمال الدين حياتَه وشعرَه طبقاً لما يدعوه بالقرآنيَّة كمقابل للعقلانيَّة. ويقصد بذلك أنَّه لا يستشيرُ العقلَ في تصريف أمور الحياة والشعر، بل يستشير القرآن. وقد كنت كثيراً ما أفكّر في مقارنة طرق تفكير الناس في تصريف شؤون الحياة بين استشارة قوى العقل واستشارة قوى الغيب متأمّلاً النجاح والإخفاق، والطمأنينة والسخط، والشعور بالجدوى واللاجدوى.
ولذلك مِلتُ إلى الجدل مع الشاعر أديب كمال الدين بشأن إصراره المدهش على تنحية قوى العقل عن القرارات الحاسمة في حياته. ولكنَّ أديب كمال الدين لا يحبّ الجدل، وكان يخوض معي في الأدلّة التي يملكها شواهدَ على أنَّ العقلانيَّة في بناء الاختيار الإنساني قد لا تكون هي الطريق الأمثل لرسم الحياة، بل على العكس أن تدع نصّاً ذا طاقة جبّارة، القرآن، يرسم المآل والمصير وينفّذهما طوعاً هو الاختيار الأمثل. لم يُقنعْه شظفُ العيش في عراق الحصار والدمار أيام الدكتاتوريَّة بمغادرة البلد، لأنَّ استشارة القرآن منعتْه من ذلك سنين طوالاً حتى جاء الإذن أخيراً في مطلع الألفيَّة. ولم يقتنع في الأردن أن يسرّع شؤون هجرته إلى أستراليا بالوساطة، بل ظلّ حتى وردت نُذُر الغيب بالانتظار حلَّاً أفضل لحياته.

  تطويع تجارب الشعر في الحياة

******************************

 

غير أن السؤال الأهمّ هنا، هل هناك صدى لهذه الخطّة لأعماله الواقعيَّة في أعماله الشعريَّة؟ أجازف بالقول "نعم"، هناك صدى في كليّة تجربته الشعريَّة. ما يفعله أديب كمال الدين هو نوع من نقل التجربة في اتجاه معكوس إلى حدٍّ بعيد، فهو يتيح لتجربته الشعريَّة أن تنعكس على حياته، وليس العكس تماماً. فلا يصدق عليه القول إنَّه يطوّع تجارب الحياة في الشعر، بل يطوّع تجاربَ الشعر في الحياة. ولا مصداقَ معه للقول إنَّه يفتِّش في المحسوس عن اللامحسوس، لأنَّه يسري بالعكس بهدي اللامحسوس في المحسوس. ولذلك أجد أنَّ مفردات الواقع في شعره تموّه واقعيتها، أي أنَّ مفردة الشجرة، على سبيل المثال، التي ترد في شعره منبتة الصلة عن الشجرة في الواقع من ناحية انطلاق الشاعر مما يراه بدءاً وقبل كتابة القصيدة. إنَّ رحلتَه الشعريَّة خلقت له عالماً تحكَّم برحلته الواقعيَّة، وهذه خلاصة لم أعثر عليها في شعره فقط، بل في حياته وكيف صرَّف شؤونها. إنَّه يُقحمُ، بوصفه شاعراً، رؤية شعريَّة مضيئة في الواقع المظلم، ظنّاً منه أنَّ هذا النفق الفعلي الذي يحاولُ إنارتَه ستنكشف ظلمتُه حال حضور ذلك اللامرئي، المشرق.

 

 

 

 

 

 

 

 


ولعلَّ في هذه الخطّة علامات على إمكان أنْ تتحقَّق المفارقة، فنرى في النفق ضوءاً ينعكس في الحياة قبل الشعر؛ ولذلك قال لي مرَّة إنَّه رأى اللامرئي حين شعر أنَّ أصابع رجليْه لم تعد تلامسُ سطحَ الأرض، وأنَّ يداً تمتدُّ له بشآبيبَ من نور. ليست خرافاتٍ، ولا تهاويمَ، تلك العجلاتُ التي سيّر بها الشاعر أديب كمال الدين أعقدَ مراحل حياته بين عراقٍ ظالمٍ مظلمٍ وغربة شاقّة، فقد رأى بنفسه سريانَ حياتِه على عجلات تمضي به من حالٍ إلى حال فعلاً، رآها تدور به، فيما رآه الآخرون دائراً في أوهامه، ومحلِّقاً في خيالاته.


عالم روحاني

************

إنَّ شعر أديب كمال الدين يقف ضدّ الحسيَّة التي تضرب بجذور عميقة في عالم الشعر؛ ليس فقط لأنَّ داعي الروحانيَّة ذو أثر بيِّن في شعريَّته، بل لأنَّ الحسيَّة لم تُسعفْه أداةً في الإيفاء بخلق عالمٍ روحانيٍّ موازٍ لعالم الباطن. نحن نعلم أنَّ الاقتراب من الحسِّيّ يُطاوع الشاعر في ابتناء عالم روحانيّ، إذ تتخذ المحسوساتُ هالاتٍ روحانيَّةً، فيصبح الحجر كآبة الأبد، والنهر عنفوان الوجود وتجدّده، إلخ، لكنَّ أديب كمال الدين غالباً ما يفضِّل صفاء روحانيَّاً يعيد للكلمات طاقاتِها الأصلية وهي تتماهى بموضوعها ولا تكتفي بمجرد الإشارة إليه، أو الإيحاء به. إنَّه لا يقتفي أثر الطبيعة، ولا يرجو رحمتَها، ولا يهابُ قسوتَها، لأنَّه اكتفى بمدح "ملك الملوك"، كما يقول، مقتفياً "أثر التائبين والتائهين والعاشقين"، كما في مفتتح الشاعر لكتاب "مواقف الألف". وهؤلاء التائبون والتائهون والعاشقون إنَّما يقتفون أثرَ أسلافهم نحو "ملك الملوك"، وهذه الآثار كلّها لها معارج في السماء أكثر ممّا لها مسالك في الأرض، ويبدو الشاعر وهو يكتب المواقف معلِّقاً، تلامسُ أناملُه حافاتِ السماء، وتعلو أصابعُ قدميْه فويق الأرض.

 
إنَّه، في "مواقف الألف"، ينفي عن نفسه اقتفاء أثر القافلة بحثاً عن الذهب، ولا الشراع في البحر بحثاً عن جزيرة مفقودة، لكنَّه يتساءل "كيف ستختار نجمك؟"، والنجمة في السماء، ويتساءل "كيف سأسقيك من أنهارٍ من عسلٍ مصفّى؟" ولا وجود لهذه الأنهار في الأرض، وهكذا تتوالى الأسئلة التي لا تتيح مجالاً لأيّ نكهة أرضيَّة، بدءاً من أنهار العسل وانتهاء بمقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.



مواقف حرة

*********

في مفتتح "مواقف الألف" مفتتح يوجّه قارئه إلى غايات المؤلف، الشاعر أديب كمال الدين، الذي يقتفي هنا آثارَ أسلافه بأثر قدم مختلفة، فهو يقتفي ولا يقتفي، ينضمّ إلى أولئك "التائبين والتائهين والعاشقين" ويصرّف كلماتِه على نحو يفترق عنهم وهو يمشي في طريقهم، طريق سلكه قبله متصوّفة وزهّاد وعبّاد ومتكلّمون وفلاسفة. للشاعر التائه غاياتُه التي ترتهن بعالمه الباطني، وتضرّعه الجوّاني إلى "ملك الملوك"، لكن "المواقف" التي يكتبها الشاعر تخصّه ولا تخصّه، ولذا فهي تخلق غايات أخرى لا ترتهن بعالم المؤلف. إنَّها مواقف حُرَّة قالها "عليمُ الغيب" من خلال لسان ينطق بالشاهد، ولذا فهي نصوص ومواقف تمزج الغائب بالشاهد، وتخرج من الدنيوي لتدخل في الأخروي، والعكس صحيح. إنَّها مواقف تطلع من آخرَ غير الشاعر وتستقرُّ في الشاعر ليهضمها ويشكِّلُها من جديد.

 

************************************************************

مواقف الألف: شعر: أديب كمال الدين، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، بيروت 2012

  

 

***************************************************************

* نُشرت المقالة في جريدة الصباح البغدادية بتأريخ 17 حزيران يونيو 2015

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home