قراءة  في قصيدة "البحر والمرآة" للشاعر أديب كمال الدين

انكسرت المرآةُ فتدفّق البحر!

 محمد محمد السنباطي

 

 

 

 
1.
سبحت المرأةُ في البحر
فسبحَ البحرُ في المرآة.
انكسرت المرآةُ لسببٍ مجهول
فضاعت المرأة
وضاعَ البحرُ بالطبع.
2.
جلست المرأةُ على شجرتي
وبادلتْ غصني ببيضِ الطائر.
أردتُ أنْ أصوّرَ المشهد
فظهرت الصورةُ ساذجةً
يتطايرُ منها الريش،
وظهرت المرأةُ عاريةً
يتطايرُ منها الغيم.
3.
الحياةُ أغنيةٌ تعبتْ من ترديدِ كلماتِها
أعشاشُ البحر
وجسورُ البحر
وطيورُ البحر.
4.
أردتُ أنْ أكتبَ عنكِ
فلم أستطعْ
لأنَّ الحرف لا يستطيع الجلوسَ على الورقة.
كانَ يطيرُ حيناً
ويبكي حيناً آخر
ويبدّلُ أقنعتَه باستمرار
ويحاولُ الانتحارَ ليلَ نهار.
5.
أنتِ سفينةٌ تبحثُ عن ميناء.
رحلتُكِ لن تتوقف أبداً
لأنّ بحركِ لا يكفُّ
عن الهذيان والطوفان.
6.
كلّما ارتبكتُ هرعتُ إلى القصيدة
وطرقتُ بابَها كالمجنون.
7.
في السيركِ العظيم،
كلّما تعلّمتُ لعبةً مُرعبة
طلبوا منّي أنْ أتعلّمَ لعبةً جديدة:
لعبة أكثر رعُباً.
8.
في حديقةِ الحيوانات،
تأمّلتُ في النمرِ طويلاً
حتّى كلّمني فقال:
إنَّ حزنكَ يشبهني
لكنَّ أنيابه أكبر مِن أنيابي.
9.
استسلمتْ أحلامي البحريّةُ كلّها
للرماديّ المُوَسْوِس.
لم يبقَ منها إلّا القليل من الأحلامِ المُثمِرة،
فصرتُ أرقصُ معها في المرآة
رقصةَ البرابرة.
10.
في آخر مَرّةٍ راجعتُ ذاكرتي
قلتُ لها:
أريدُ أنْ أستبدلَ حياتي بشيءٍ آخر.
فضحكتْ وقالتْ :
للأسف، أنا لا أتعاملُ مع السفن الأثرية.
11.
حينَ رآني البحرُ مُنهاراً
قرّرَ أنْ يحكي لي عدداً من النكات.
كانت النكاتُ مُضحكةً حقّاً:
كنتُ كلّما أزدادُ ضحكاً
أزدادُ غرقاً.
12.
كانتْ حروفي أكثر شجاعة منّي.
ففي المشهدِ الأخير
جرّبتْ كلّها كأسَ السمّ
واستمتعتْ بمذاقِ الموت
قطرةً
قطرة.
13.
بعد أن انكسرت المرآة
اندلقَ البحرُ منها
ودخلت أسرارُهُ بهدوءٍ شديدٍ تارةً
وبغضبٍ عارمٍ تارةً أخرى
إلى شقّتي الصغيرةِ من تحتِ الباب
حتّى غرقتْ شقّتي تماماً.
حينها بكيتُ على نفْسي
لأنني لا أعرفُ السباحة
ولم أجرّبْ، من قبل، فنَّ العوم.
14.
لماذا كُتِبَ على صاحبِ المرآة
أنْ يحدّقَ كالمذهول
في جسدِ المرأةِ عارياً
ويبكي؟
15.
بعد أن انكسرت المرآة
خرجت المرأةُ عاريةً من الباب.
ودخلتْ إلى البحرِ
من ثقبِ ذاكرتي الراقصةِ فوقَ الجمر.
16.
لكنّ البحر لم يعد الليلةَ للبيت
إذ بِيعَ بعدَ مُزايدةٍ صوريّة.
وكُتِبَ على الناس
أن يتكلّموا بصوتٍ خفيضٍ عند الشاطئ
أو أنْ يستبدلوا كلماتهم بالإشارات،
وأن يتعرّوا ليلَ نهار
لأنّ العُري مُباحٌ وصحيٌّ ومَجانيّ
كما تقولُ نشرةُ أخبارِ البحرِ اليوميّة.
17.
حينَ انكسرت المرآة،
سألني قائدُ السرب:
لماذا تحاولُ الطيرانَ بشكلٍ منخفضٍ
حتّى أنّ طائرتكَ
تكاد تُلامس أسطحَ البيوت؟
لحظتها، تذكّرتُ أنني في طفولتي
كنتُ أصطادُ العقارب
في باحةِ البيتِ الخلفيّة.
فيما كانَ صديقُ طفولتي السعيد
يجمعُ الطوابعَ التي رُسِمَتْ عليها الفراشات.
18.
خرجت المرأةُ من المرآة
أو دخلتْ فيها.
لا يهمّ.
فالحياة تتكرّرُ كلّ يوم.
19.
لكثرةِ ما تأمّلتُ في المرآة
وفي البحرِ الذي اندلقَ منها
حاملاً شظايا الروح،
صرتُ أكتبُ قصائدي
بريشةٍ سقطتْ مِن غُرابِ نوح.

 

 

 

 

 


  قصائد الشاعر العربي الكبير المقيم في أستراليا "أديب كمال الدين" لا يجدر بك أن تقرأها مرّة واحدة، بل مرّتين أو ثلاثا حتى تفصح لك عن مكنونها وقد تبخل عليك فلا تفصح إلا عن القليل من أسرارها ولو أعدت قراءتها مرّات ومرّات. سأحاول هنا الولوج إلى قاع "البحر والمرآة" متناولا إياها مقطعًا بعد مقطع لعلّي أصل إلى ما يشفي الغليل من منهلها:

1- اللقطة شديدة البساطة: المرأة تسبح في البحر، والبحر يسبح في المرآة التي هي، ربما عيني الشاعر، ولسبب ما صرف الشاعر الطرف عن المشهد فتلاشى المشهد.

2- جلست المرأة على الشجرة، ليست أيّ شجرة وإنما المنتسبة للشاعر، ولم تجلس ساكنة عاطلة بل بادلت غصن الشعر ببيض طائر. كيف يترك الشاعر هذا المشهد يضيع سدى؟ حاول تصويره بعدسته فلم يحتجز الإطار سوى ريش وغيم متطايران بينهما امرأة في العري والسذاجة.

3- ربما دفعه الإخفاق في تسجيل المشهد إلى التسليم بحتمية نواميس الحياة التي تعب من ترديد كلماتها: الأعشاش التي فيها يفقس بيض الحياة، الجسور التي توصل إلى الحياة، الطيور التي تحلق في سماء الحياة، ولكن كل ذلك محصورا في مشهد البحر.

4- لم يستطع تسجيل المشهد كما يجب، أراد الكتابة عنها فأخفق. لماذا؟ لأن الحرف لا يستطيع الجلوس على الورقة بل يطير عنها باكيا متخفيا محاولا الانتحار. ومازال الإخفاق مستمرا.

5- قدره أنتِ، وما أنتِ؟ سفينة دائمة الرحيل في بحر دائم الاضطراب.

6- وذلك سرّ ارتباك الشاعر وهروعه الدائم تجاه القصيدة يدقّ بابها كمجنون.

7- وكيف لا يكون مجنونا وهم دائما يحملونه ما لا طاقة له به!

8- فلا تلوموه على حزنه الذي تعرف عليه النمر الحبيس وأقرّ بوجه الشبه متجاهلا وجه الاختلاف.

9- هو الاستسلام إذن للرمادي حيث لا وضوح ولا تميّز، الرمادي الموسوس في زمن سقوط الأحلام المثمرة وانقراضها.

10- حياتك هي حياتك لا مفرّ لك منها ولا استبدال. السفن العتيقة لا ينبت لها جسد جديد.

11- دع المرأة جانبا ولو إلى حين وعليك بالبحر الذي سيخفف عنك بنكات يرويها لك. اضحك من كلّ قلبك وأنت تحفر بئر الغرق.

12- يا لله! إنك تخشى الغرق! حروفك تتجرع السمّ بشجاعة سقراط وتستمرئ الموت المقطر في فيها.

13- لكن المفاجأة تحدث فجأة فالمرآة انكسرت وكان البحر بداخلها فاندلق منها فاجتاح شقّتك يا من لا تجيد معاملة الماء المقتحم.

14- أنتَ يا صاحب المرآة المحطّمة مكتوب عليك أن تحدّق في جسد المرأة مذهولا عاريا طافحا بالدمع.

15- بينما هي تخرج إلى البحر لا تلوي على شيء وقد اجتازت ثقب ذاكرتك.

16- خرجت هي إلى البحر وذهب البحر معها مستأثرا بها ولم يعد بل يُقال إنه بيع بمزاد صوري لصاحب أو صاحبة النصيب.

17- وأنت شاركت في سرب طيران منخفض كيلا تكتشفك الرادارات، أنت المغامر من يومك. ألا تذكر طفولتك التي كنت فيها تطارد العقارب بينما أترابك يجمعون صور الفراشات!

18- أجل يا بطل! عدْ إلى رشدك ولتدخل المرأة أو تخرج فالحياة دائرية.

19- أنت المتأمل الدائم في المرآة، وفي البحر الذي ينبجس منها مفعما بشظايا من روحك المهشمة. بماذا تكتب أشعارك؟ بريشة من جناح الغراب الذي أرسله نبي الله قديما ليأتي بخبر انتهاء الطوفان. ولكن هل انتهى؟

تلك كانت قراءتي لإحدى قصائد شاعرنا العربي الكبير أديب كمال الدين الذي ما إن تكتب اسمه على بساط البحث حتى تتفجر الينابيع تنبيك عن كتبه والدراسات العديدة التي كُتبت عن أشعاره بل تجد أعماله الكاملة طوع يمينك تنهل منها ما تشاء. وليغفر لي تقصيري في القراءة حبي له وتقديري لسموق إبداعه.

*****************************************

 

نُشرت قصيدة (البحر والمرآة) في مجموعة: رقصة الحرف الأخيرة، شعر: أديب كمال الدين، منشورات ضفاف ، لبنان، بيروت 2015

محمد محمد السنباطي: شاعر ومترجم مصري

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home