كيف نفهم التكرار في شعر أديب كمال الدين؟

 

 

 

د. صالح الرزوق

 

 

من أهم صفات شعر أديب كمال الدين تكرار بعض الصور والعبارات والتراكيب. هذا لو صرفنا النظر عن اللعب بالحروف واشتقاقها بطريقة هيدغرية جميلة ذات معنى، وتكرار الرموز والدوال الإبستمولوجية الشائعة التي تدخل في باب ( أحسن القصص ) وما تتضمنه من معجزات وأحداث جسيمة منها طوفان نوح وحكاية سقوط النبي يوسف عليه السلام في البئر وغيرها. ولئن وجدنا في ذلك إسقاطا معاصرا يشير لغدر الأشقاء واقتراب التاريخ من نقاط فارقة تستوجب التأكيد على الحذر والانتباه، فإنها لا تخلو من معنى فني يدل على الطبيعة الخاصة لحساسية الشاعر وأسلوبه.

ومع التقدم باتجاه الوقت الحاضر، هبوطا من البدايات، تبدو بعض قصائده مثل اختصار أو تكثيف لمجمل تجربته الشعرية التي تمتد لزهاء ربع قرن. كأنه يتبنى شعار البياتي في الحياة: أن يحمل الفأس ليحفر بها أعماق نفسه ( حسبما ورد في قصيدة بطاقة بريد إلى دمشق) (1). حتى أن قصيدته ( زائر شقة البارك رود ) المنشورة في أواخر عام 2012 ( 2 ) تشبه النواة التي تلتقي فيها كل خيوط رموز الشاعر. وأشهرها ( على سبيل الذكر وليس الحصر) زيارة اللص للبيت ( وردت في مرثيته لمقتل محمود البريكان )، ومطلع بعض الآيات القرآنية التي لا تخلو منها قصيدة بعد ظهور مجموعته ( جيم ). وسفينة نوح. والصورة التوراتية التي لها أصول في ملحمة جلجامش عن الطوفان والغمر المائي فوق وجه الأرض. ورأس الحسين المحمول على أسنة الرماح بعد كربلاء ( وهي صورة وردت بالحرف الواحدة أيضا في قصيدة سابقة عنوانها لم أنت ؟) وغير ذلك، وغيره.

لقد كانت هذه القصيدة كما يقال في لغة الإعلانات التجارية 5 في 1 . تدمج في خلية لغوية واحدة وجوه تجربة الشاعر طوال مسيرته. وقد فرض ذلك الانضباط والتكثيف انخفاضا في عدد المفردات والصور مع زيادة ملحوظة في العلاقات المحورية بين التراكيب.

فهل يقف وراء ذلك اقتصاد في المفردات أم ضعف في الذخيرة اللغوية؟..

لا أعتقد أن الاحتمال الثاني وارد بسبب مهارات الشاعر الواضحة في تفريع المعاني انطلاقا من كلمات هي أصلا قائمة على أبجدية متناهية. لقد كان كل حرف من هذه الأبجدية المتحولة يعكس قدرة الوجدان على الإضافة والتحميل ناهيك عن تشذيبها من تراب وغبار عصر الانحطاط.

أما بالنسبة للاحتمال الأول هناك عدة وجهات نظر تبرره.

فقد نظر لاكان للتكرار على أنه طريقة من طرق استعادة الحقيقة بعيدا عن الذكريات ( 3 ). لأنه يضع حدا فاصلا بين الذكرى الموجعة والمؤلمة التي يرافقها الشعور بالفاجع. وعليه يمكن التعامل معه كوسيلة للدفاع عن الذات، لتخفيف أثر جراح الماضي، وللالتفاف من حول تلك الندوب.

ومع أنه أصاب كبد الحقيقة راوح مفهومه في أرض التحليل النفسي دون اهتمام بالمكونات المعرفية. زد على ذلك أنه وضع الذات في فضاء عام حتى أصبحت بلا شخصية ولا خبرات خاصة.

ولكن من خصال الفن الإسلامي ( الذي تنتسب مرجعية أديب كمال الدين له ) أنه يتألف من مفردات بصرية محدودة تتكرر مرارا، ومنها المثلث والمربع والأشكال النباتية. ولا يمكن أخذ ذلك كدليل على فقر أو ضعف في الرؤية ولكن بصفة قرينة على الطبيعة المستقيمة والمباشرة لنظام التفكير. فهو نظام يقوم على طقوس لا بد من تكرارها على مدار الساعة.

ومنذ البداية كانت البلاغة الإسلامية واضحة بهذا الشأن. وعملت على التبشير بطريقة جديدة لإدراك غير المعقول. واعتمدت على مبدأ الإزاحة.. إلغاء خطاب مادي وثني واستبداله بخطاب يعمل من فوق الواقع. وهذا تطلب القضاء على الشعرية العربية وقوانينها وفرض رومنسية دينية، يمكن لها أن تستدل على الواقع من الأثر وليس من الفعل العيني المباشر أو فعل الرؤية.

وبشكل عام يمكن الاستفادة من هذه الظاهرة في التأكيد على معنى أو تخصيصه. مثل التعبير عن انحياز الشاعر لموقف وجودي من العالم كما هو حال السرد الروسي قبل الثورة. فهو لم يرَ منفذا للتملص من حالة الحصار والفساد والفوضى. ثم إنه لم يكن مضطرا لاختراع نهاية إيجابية متفائلة، تأتي من خارج السياق وتفرض لغتها وصورها.

ولنضرب رمز سفينة نوح مثلا. في الشعر العربي كان دليلا على اليأس وعلى ( عبث أو لهو الأقدار ) لو سمحنا لأنفسنا الاقتباس من نجيب محفوظ. وهذا واضح في قصيدة (جاء نوح ومضى) لأديب كمال الدين، والتي هي صرخة يائسة لغريق يتمسك بشعرة. أو كما ورد في القصيدة صرخة رجل ( انتظر السفينة طويلا )، ولكن يا للأسف: ( جاء الرجل ومضى )( 4 ). وترافق ذلك مع وصف دموي وموحش للغمر مع اختصار الحكاية بمقدار النصف. وغابت النهاية التي تدعو للتفاؤل.. الثنائي المعروف الحمامة وغصن الزيتون.

 

كانت رؤية القصيدة تنظر لواقع الحال بعين واحدة، وهو سلوك يصدق على الأدب العربي بشكل إجمالي. من ينسى، في النثر، رواية ( المغمورون ) لعبدالسلام العجيلي التي وضعت التفسير الشعبي لمعنى السيادة في مواجهة أو حرب مفتوحة مع تطبيقات الدولة له. ومن ينسى رواية ( الجبل) لفتحي غانم حيث صورة العشيرة ومجتمع البداوة بمثابة استعارة للسجال المحتدم بين الجامد والساكن وبين المستقبل المتحرك بشكل غمر أو فيضان. ولكن خارج دائرة الشعر العربي الغنائي كان التلازم واضحا بين الأسباب والنتائج. ولنأخذ هنا قصيدة ( هيا إلى الطوف ) للبولندية فيسوافا شيمبورسكا على سبيل المثال. لقد التزمت الشاعرة بترتيب الحكاية، مع قليل من التنزيل، بمعنى قليل من تخفيف الدوافع السحرية أو الهالة. بعبارة أخرى: كانت شيمبورسكا مادية حتى في ما يتعلق بنشاط الوجدانيات. وحملت معها في الطوف إلى بر الأمان الإنسان وأكاذيبه. المرأة وحفاضات الحيض. وكذلك صغار الكسبة ورغباتهم المكبوتة وتنهيداتهم. ومع بعض التحفظات يمكن أن نضع شيمبورسكا بين الشعراء التموزيين. فقد كانت مقتنعة بوجود منعطف إيجابي بعد الفاجع حيث: لا بد للمطر أن يتوقف، وللأمواج العاتية أن تنحسر. تمهيدا لتعويم ما تقول عنه:

جزر السعادة،

والخراف،

ورؤوس القرنبيط،

وحفاظات النساء(5 ).

لقد قدمت الإيديولوجيا أوالواقعية الإشتراكية لشيمبورسكا خشبة خلاص، خلاف حال الاستلاب العام عند معظم شعرائنا الوجوديين سواء بنسختهم الإلحادية أو الإيمانية. وعلى الرغم أن بينهم ما صنع الحداد، تفننوا جميعا في "رثاء القضية"، وتحولت على أيديهم لإحباط شخصي أو لتجديف، وبجو من العدمية المفرطة وبإطار رؤية مراهقة وسخيفة من نوع الوسادة الخالية والنظارة السوداء وهلم جرا. جنبا إلى جنب مع رومنسيات دينية كان من أبرز مظاهرها التحقق من طبيعة العناية الإلهية وفحواها.

ويمكن قراءة كل قصائد ( مواقف الألف ) لأديب كمال الدين بضوء النوع الأخير من هذه القناعات. فقد عكست خلاصة خبرات الشاعر وثقافته، وموجز تجربته الإيمانية، بواسطة خطاب "المتشابهات" و" التماثل "، وهذا طبعا في عالم شائن وظالم ومتقلب. ولماذا لا نقول عبثي لا خلاص منه إلا باللجوء إلى العلة الأولى. كأنه يستلهم نموذج المواقف والمخاطبات بالصورة التي أرسى دعائمها المتصوفة، مع فارق بسيط يتلخص في التخلي عن مخاطبة الذات الإلهية والتحول لمناجاة جزئيات من عالم صوري تتحكم به الأهواء والدوافع. ولذلك تبخرت من الجو مشاعر الغبطة والتطهير وتآلف الجزء مع الكل، أو أحكام الإفاضة، وحلت في مكانها رنة حزن وقلق، رنة أسف تأتي من وجدان رومنسي عاثر الحظ.

يقول بهذا المعنى في قصيدة ( موقف الخطأ ) :

أوقفني في موقفِ الخطأ

وقال: أنتَ خطأ يتكرّر.

كلما انتهى إلى الحق

عاد فوراً إلى الخطأ.

ما أن تُشفى من خطأ يا عبدي

حتى يتدارككَ خطأٌ أكثر قسوة

وأكثر رمادا. (6 )

ويبدو ذلك أوضح في قصيدة ( أعشاش )، وهي من خارج التجربة الإيمانية، وتنتمي لعالم واقعي ساخط، يدور في دوائر مفرغة فرضت عليه أن يلتزم بمفهوم الحدود على مستوى المعاني والتراكيب. ولذلك انقسمت القصيدة لفضائين.. الأول مزدحم بجمل لها نفس الجذر الإبستمولوجي، والثاني يتألف من جملة إسمية متغيرة تأخذ موقع نقطة التنوير في القصة، كما في قوله:

أحدهم طارَ فوقَ عشّ الموت

والآخرُ طارَ فوقَ عشّ الفجر

والثالثُ فوقَ عشّ الضحك... إلخ. ( 7 )

وقل نفس الشيء عن قصيدته ( ورقة بيضاء ). فهي تبدو أشبه بإدانة لعالم يفقد نفسه. ويعود دائما للمربع رقم واحد: وهو السجال المحتدم بين الذاكرة العامة والذات المفقودة. وهذا ما يجبره على الانفصال عن أدواته وهدم الفراغ. أو بلغته ( تمزيق الورقة البيضاء عند مطلع كل فجر ) ( 8 ).

 

وفي الشعرية العربية أمثلة عديدة على هذه الظاهرة، ولاسيما بين صفوف المخضرمين ممن كانوا علامة فارقة في منعطف الحداثة، أمثال محمد عمران الذي فتح الباب لما يسمى بقصيدة التوازنات. حيث تضع القصيدة في الحسبان ضرورة التوازن بين التصورات الغامضة للذات والنبوءة. ومثل البياتي الذي كان رهين المحبسين، ولنأخذ العبارة بمعناها الحرفي. فهو وإن وضع أسس شعر التفعيلة، لم يلتزم في أفكاره النثرية عن الثورة بأي قانون. ولذلك أمضى كل الشوط يراوح في أرض غيره، ويتحدث عن ثورة الكادحين بمفردات يسوعية، وعلى الأقل بكلمات طالما وردت في أحاديث منسوبة لأئمة التصوف. وأخيرا وليس آخرا مثل رائد قصيدة النثر في سوريا، المرحوم محمود السيد، الذي شق للعذاب مع القاموس دربا خاصا قوامه المعاناة من فكر التجربة، أو من فضاء التجربة و ليس بالضرورة من واقعها.

وبالعودة لموضوعنا لقد اختصر أديب كمال الدين كل تلك الطرق باتجاه حداثة طليعية، تفوقت على الواقعية الجديدة في إعادة قراءة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وذلك بتخصيص المعاني. فقد ابتعد ما أمكن عن الاستطراد ( وأقصد به تفريع السردية بطريقة الجاحظ وألف ليلة وليلة. وما دمنا في مجال الشعر أقول بطريقة القصيدة الجاهلية)، وركز على تبديل موضع المفردات في التراكيب، وفي بعض الأحيان تبديل الاتجاه بتحميل الرموز حمولة مقلوبة. وهكذا تساوت لديه المعاناة الفردية المباشرة مع فضاء الوجدان العام من جهة ومع التصورات والرموز من جهة أخرى. واستطاعت المفردات المحسوسة أن تعبر عن تجربة فوق زمنية. وهذا هو القانون رقم واحد لزمن الحداثة ( لو استعرنا من أدونيس مصطلحاته). وهو سلوك ناجم عن إيمان مبني على الرغبة بالموضوع وليس على الخشية منه ( كما يقول كامو).

ولذلك ترى أنه في قصيدة ( ملك الحروف ) التي تتألف من 39 مقطعا يكرر كلمة نقطة وحرف 39 مرة في صور لها شكل جمل إسمية حصرا. ويربطها جميعا بصيغة تفضيل واحدة هي ( ما أسعدني ) للدلالة على الغبطة.

وكذلك هو شأن قصيدة ( ثنائية ) التي تتألف من 37 مقطعا هي محاولات متكررة لتعريف معنى القبلة والموعد. وذلك بصورة علاقات هدم وبناء، حيث أن التالي يعمل جاهدا على نفي السابق.

كقوله :

القُبلة غزالة

والموعدُ عينان وصحراء وبندقية ( 9 ).

أو قوله :

النقطةُ ندى

والحرفُ دمعة ( 10 ).

وهذا ما يفعله أيضا في قصيدته النثرية ( عفيفة إسكندر ) التي تبنى فيها أسلوب المحاكاة المعكوسة. حيث يكون التطابق بين العاقل والجماد بنسبة مائة بالمائة. مع الحرص على أن تنتقل الصورة من المفرد إلى الجمع، ومن المجتمع إلى الظرف أو المرحلة. وعلى هذا الأساس تصبح المطربة بلورة سحرية تجسم لنا أغلاط المدينة وسقوطها. وبهذا المنطق يقول:

ماتتْ وهي تغنّي

مثل لعبةٍ كبيرةٍ جميلةٍ دون روح

تماماً دون روح مثل بغداد:

مدينة المُتخمَين والمُعدمَين والأرمن واليهود،

مدينة الملاهي والبارات والكنائس والمساجد،

مدينة المعتزلة والمتصوّفة والمَلاحدة ( 11 ).

وكأنه يفترض الضد في الضد. وهي طريقة معروفة في كل تراث بلاد الرافدين من أيام جلجامش وحتى البياتي حامل مشعل الحداثة. وأعتقد أنه يوجد خيط يربط كل حلقات السرد الفني في العراق بما نقول عنه " تعاقب المخيلة". فلطالما كان الأبطال في ملحمة جلجامش يبدأون بمشاهدات من الواقع تمهيدا لبلوغ ظل الآلهة. ولذلك يتجه سهم الحركة من المجهول إلى الغامض. وبالاستطراد كان التكرار يخدم توسيع الإطار المعرفي من التعريف إلى التصنيف. كما هو الحال في العمود الأول من اللوح الخامس حيث يمكن التعرّف من وراء ذرى الجبال وأشجار الأرز على مرتع الآلهة ومقام أرنيني (12). أضف لذلك استعمال حرف الاستفهام بالتناوب مرة بمعنى السؤال، ومرة بمعنى الإجابة والمعرفة المسبقة. وخير مثال على هذه القراءة التصاعدية تجد أثرا لها في أشعار البياتي من خلال ربط صور الشقاء بدوران عجلة الإنتاج. أو بعبارة مباشرة ربط المادي بالمعنوي بواسطة نفس المفردات. كما فعل في قصيدة ( أحزان البنفسج ) والتي أخذت الصيغة الفنية فيها شكل تراكيب متوازية على النحو التالي:

الملايين التي تكدح = الملايين التي تصنع للحالم زورق = الملايين التي تصنع منديلا لمغرم، إلى آخر ما هنالك.....( 13 ).

ومع أن القسمة جائرة في كل تلك الأمثلة بين الثابت والمتحول، فهي تساعد على إنشاء تراكيب مبتكرة من خارج قوانين التوابع في اللغة، وتعمل على قلب المعنى من خلال ضبط المفردات والصور. وكأنها طباق دلالي يمكن به للتوابع أن تغتني برصيد نفسي ووجداني سواء على مستوى اللفظ أو المعنى.

وإنه يمكن مقارنة أصول هذه الشعرية الحديثة مع الثورة البلاغية التي أسس لها القرآن الكريم في بواكيره، بالاعتماد على الأوامر والنواهي والإعجاز دون الدخول في تفاصيل الأحكام. ويكفي أن نضرب هنا مثلا واحدا هو سورة الناس و سورة المزمل. لقد كان القرآن ثوريا بكل المقاييس. ووظف الصور والمفاهيم الغامضة التي لا تستوعبها عقول العامة. وهذا هو الدرس اليتيم الذي تكفلت به الحداثة طوال القرن العشرين. فقد بشرت بحالة مفاهيم مطلقة لم تهضمها الذائقة الفنية للنخبة، فما بالك بعامة الناس.

ومع ذلك لم يكن الأمر يخلو من فوارق جوهرية. فشجرة التراكيب في القرآن تعتمد على تعويم الألفاظ للتأكيد على فكرة. وحسب المخطط التالي: متحول أو بدل + جذر إبستمولوجي ثابت ومتكرر.

والعكس بالعكس، كان لشجرة التراكيب في القصائد دلالة عامة تشبه فضاء مفتوحا على نفسه، وليس دائرة أو علبة أسرار مقفلة، وحسب المخطط التالي: جذر إبستمولوجي ثابت ومتكرر + متحول .

ولمزيد من الدقة يمكن تمثيل تلك العلاقة بالمخطط التالي:

في القرآن الكريم : تركيب 1 ← تركيب 2 ← الحكمة الإلهية أو العظة.

في الشعر : تركيب 1 ↔ تركيب 2 ↔ المعنى.

وكما أرى إن التأكيد في القرآن ركز على نهاية الآيات، وباتجاه تيار مستمر، لأن الإيمان هو الحكمة أو المغزى من الوجود. بعكس الشعر فقد حمل كل علامات الشك بالنهاية، وإن لم يكن هو الشك فهو الخوف من الظروف والملابسات الغامضة التي تحيط بتجربة الموت، أو الغياب كما يقول بعض الشعراء، ولذلك كان تردديا. وقوامه نقل التجربة نفسها ثم تعميمها. وهناك أكثر من وثيقة تؤكد ذلك، منها اقتران الموت في ذاكرة أديب كمال الدين بما نعتبر أنه مرعب أو مدعاة للتشاؤم وضيق الصدر. كقوله: بحر الرعب والموت. وقوله: شجرة الموت لا تحب المزاح. أو قوله: شجرة الموت المسكونة بالندم والأجراس السود ( 14 ).

وهذا ليس قول شعراء فحسب إنما موقف من لحظة مفارقة.

**

ولكن الأهم من ذلك اللجوء إلى التكرار للتعويض عن الإيقاع المفقود. وقد ساعده أنه لا ينظم القصائد ولكنه يكتب الشعر. بفحواه المجرد، بمطلق معناه، وهو ما يسميه الإغريق القدماء ( الإنشاد ) وما يقول عنه العرب الشعر الغنائي.

 

وأقرب مثال على ذلك قصيدته السابقة ( ثمة خطأ ) ( 15 ) التي تعتبر نموذجا فريدا عن النشيد الشعري. ولا تختلف عنه إلا بالتخلي عن صفة تأليه ومديح الذات النرجسية. فهي تتألف من جملة طويلة واحدة تتفرع إلى تحت جمل ترتبط بواسطة اسم إشارة متكرر وبمسافات متشابهة.

وللتوضيح كانت كلمة ( ثمة ) تتكرر كل 6 أو 7 أبيات. وهذا معروف في جميع أشعار مخاطبة الذات أو شعر المونولوجات الدرامية. ألم يكرر نشيد الإنشاد في التوراة ضمير المتكلم أنا وحرف التشبيه كاف في أول بعض الآيات بمسافات متقاربة. ألم يستعمل لوتريامون في أناشيد مالدورور حرف التنبيه ( ها ) في النشيد السابع مع بداية كل فقرة ( 16). ثم من لم يسمع بقصائد ( البلوز في نيو مكسيكو ) لجاك كيرواك، المؤلفة من أناشيد تبدأ كلها بنفس الكلمة وهي ( كورس )(17 ).

وهناك أمثلة أخرى كثيرة على التكرار لملء الفراغ الناجم عن الجمود في الأحداث، ودخول الذات في مرحلة من العطالة هي تباشير لما يسميه البنيويون " فضاء الموت العام".

وفي رأس القائمة نموذج المتنبي، فقد كان شاعرا ظرفيا أو شاعر أحوال وحاملا لرسالة لم تسقط بالتقادم من ذهنه، وإن أسدل عليها الستار بعد تجارب سياسية مريرة وغامضة. وقد بلغت نسبة التكرار لديه معدل كلمة في الشطر الواحد، كما في قوله: إذا رأيت نيوب الليث بارزة - فلا تظنن أن الليث يبتسم. وأحيانا بمعدل مفردتين كما في قوله: وكم من جبال جبت تشهد أنني الجبال - وبحر شاهد أنني البحر. أو أربع مفردات كما في قوله: فطعم الموت في أمر حقير - كطعم الموت في أمر عظيم.

وهذا رقم قياسي بالنسبة لبيت شعر كلاسيكي يتألف من عشرة كلمات. إنه تكرارمن العيار الثقيل الذي لم نسمع به إلا في كتاب غينيس. ولقد كلفه ذلك تحميل الكلمة الواحدة لأكثر من معنى، وأصبح من قبيل الإسراف استعمال عدة مفردات لنفس المضمون. وهذا يفسر أسباب المرونة و البساطة في قصائده، ولماذا وصلت للضمير الشعبي العام مع أنها شعر بلاط وأمراء.

وهنا يجب أن لا ننسى حالة لورنس ( ليس المستشرق ولكن الشاعر والروائي ). فقد اعتمد في أول دواوينه على مفردات رومنسية قليلة للتعبير عن حالة الانشقاق والتغريب التي وضعته على هوامش قانون مجتمعات أوروبية كلاسيكية. وهذا تصرف يمكن فهمه بضوء التناحر بين مجتمع له أخلاق جاهزة وبين وجدان متعثر وغاضب يعكس كل أخطاء التاريخ وحالة الركود عشية اندلاع الحرب العالمية.

لقد أعاد لورنس الاعتبار لظاهرة الإيقاع. ولم يأل جهدا في اختصار الجملة المركبة بصوت ينوب عنها. حتى أنه ورد، في روايته المشهورة عشيق الليدي شاترلي، صوت الضحك ( هههه ) 13 مرة في فقرة واحدة لا تزيد بحجمها عن 130 كلمة ( 18 ).

ويمكن النظر إلى قصيدة ( مثلثات)(19 ) لأديب كمال الدين بهذا الاتجاه. إنها قصيدة عن الروح التائهة واليائسة التي تدور حول نفسها، حيث الإيقاع يكسر قانون الموسيقا الداخلية، ويعود لسابق عهده كظاهرة مرتبطة بالصوت والإلقاء كما في قوله:

المثلثُ يدورُ على نفسه كالمجنون،

يدورُ، يدورُ، يدور.

ولا أستطيع أن أجزم لماذا اختار الشاعر رمز المثلث. ولكن هذا لا يخلو من إشارة واضحة لفلسفة اللامعقول. وهي فلسفة لا تبرير لها، ولا يمكننا رؤيتها إلا بعيون بيكاسو وغيره من السرياليين. لا سيما أن الأشكال المنتظمة لم تعد مجدية ما دامت لا تعكس الحقائق المشوهة للمعاني والأفكار.

 

هوامش :

1 - من مجموعته أشعار في المنفى. ص 33. منشورات المكتبة الأهلية. بيروت. 1964.

2 - نُشرت لأول مرة في صحيفة المثقف الإلكترونية. عدد 2263 . تاريخ: 2 - 11 - 2012 .

3 - أربعة عناصر أساسية في التحليل النفسي. ص 48. طبعة بنغوين. 1994 .بالإنكليزية.

4 - قصيدة جاء نوح ومضى. مجموعة أربعون قصيدة عن الحرف. ص 8 - 9 . دار أزمنة. الأردن.2009.

5 - قصيدة مهداة إلى ضحايا إعصار ساندي. إعداد ساشا ويس. النيويوركير. عدد 30 تشرين الأول 2012 . بالإنكليزية.

The New Yorker, A Poem for the Sandy Aftermath, by Sasha Weiss , October 30, 2012 .

وهنا أشكر الأستاذ الشاعر يحيى السماوي لتفضله بتدقيق الترجمة وتصويب بعض المفردات. اقتضى التنويه.

6 - من مجموعة مواقف الألف. ص 17 . منشورات الدار العربية للعلوم ناشرون. 2012 . وهي مجموعة متأثرة بالتصوف الواقعي وليس التصوف الغنائي. وكان الربط واضحا بين الوجدان والعمل. بعكس ( أغاني القبة ) لخير الدين الأسدي الذي ترك كل شيء لعناية الذات الإلهية.

7 - منشورة في مجلة النور الإلكترونية. عدد 28 - 10 - 2012 . وهنا لا يفوتني التنويه إلى التشابه في هذه التراكيب مع عنوان رواية شين أوكيسي: أحدهم طار فوق عش الوقوق one flew over the coco's nest. ولكن هذا ليس دليلا على العلاقة أو التأثر.

8 - نُشرت لأول مرة في مركز النور الثقافي. عدد : 8 - 11 - 2012 .

9 - 10 - مجموعة حاء. من الموقع الإلكتروني للشاعر.

11 - النور - 4 - 11 - 2012 .

12 - فراس السواح. ملحمة جلجامش . ص 98 . دار الكلمة للنشر. بيروت. 1982.

13 - ص 5 - أشعار في المنفى. مصدر سابق.

14- وردت المقتطفات في مجموعته شجرة الحروف. انظر قصيدة وصف. وقصيدة شجرة الثعابين. منشورات دار أزمنة. الأردن. 2007 .

15 - من مجموعة: أقول الحرف وأعني أصابعي. المؤسسة العربية للعلوم ناشرون. بيروت. 2011 .

16 - سمير الحاج شاهين. مقدمة أناشيد مالدورور لسمير الحاج شاهين. ص 43 . المؤسسة العربية للدراسات. بيروت.1982.

17 - البلوز في نيو مكسيكو. لجاك كيرواك. منشورات غروف وأتلانتيك. 1990 . باللغة الإنكليزية.

18 - طبعة بنغوين - 1960 - باللغة الإنكليزية. ص 296.

19 - منشورة لأول مرة في صحيفة المثقف الإلكترونية. عدد 2258 . تاريخ 28 - 10 - 2012

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home