معنى الوطن في شعر أديب كمال الدين 

 

 

 

 

 

 

 

 د. صالح الرزوق

 

يأخذ الوطن في شعر أديب كمال الدين عدة صور، وبالمقابل عدة مفاهيم، فهو في البداية شديد الصلة بالمكان، والبداهة أو الفطرة التي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته باسم العصبية ، وهي مرادف آخر لمعنى الانتساب.

ولذلك كانت القصائد في بواكير حياته مع فن الشعر شديدة الاهتمام بالتصوير وبالمرئيات ثم بالأشياء. لقد كان أديب كمال الدين يتقرب من عناصر الأمكنة من خلال روح التعرف، ومن خلال اكتشاف مغامرة المضمون مع الشكل أو التسمية كما يحب أن يقول غاستون باشلار.

لقد قدم لنا الشاعر عدة رموز مكانية من بينها البيت ومفروشاته ثم القبو والفراغ أو الفضاء المعتم الذي يحتمل دلاليا الترادف مع قيمة الرحم، ومنه يشتق العرب صلة القرابة أو صلة الدم مع إشارات ذات معنى  لتفاصيل أخرى، قد نعتقد أنها عبارة عن ديكور أو رطانة مضافة، وهي في الواقع تواصل مع المحيط والبيئة كالنافذة والشرفة والسلالم والشجرة وهلم جرا...

وبهذا السياق تضع قصيدة العائلة (وهي من بواكير قصائد الشاعر) أفراد الأسرة بالتساوي مع مكونات البيت  وعناصر الطبيعة المنبسطة مثل الجبل والوادي والشلال، إلخ، إلخ...

ثم إنها فيما بعد تعتبر المائدة والغرفة، وما شاكل من صور منزلية صغيرة، مجرد اختصار لديالكتيك الوجود والعدم. ونرى أن الغرفة هي وطن–  لصورة، ومسرح لجميع أنواع العواطف، كالبكاء والفرح والسهر وغير ذلك.

ومن هذه المقدمات، والتي تشبه كثيرا المراحل المبكرة من حياة الطفل، وفيها تنشط عقدته الأوديبية، ويباشر بالتعرف على موقع الأب في الأسرة، وضرورات التلصص على ما يدور خلف الأبواب المغلقة، ينتقل أديب كمال الدين إلى المرحلة التالية. وهي مرحلة الصدام مع القانون ، أو بالأحرى مع الحدود ، الممنوعات ، المحرمات ، والتي لها جذور أو علاقة لفظية و مقلوبة مع الرحم.

من الانتساب إلى الانفصال ، ومن الألفة إلى الاستلاب بمقاييس بريخت ، حيث يصبح من الضروري الانتباه للمسافة الفاصلة بين المفردات ومعانيها ، والى تلك القدرة المدهشة لتحويل المداليل داخل السياق.

واذا كانت مجموعته (أخبار المعنى) هي ذروة هذه المرحلة، فهذا فقط لأنها تنظر بعين الشك والقلق لما حولها ، وبعين الريبة ، وما بعد التعرف ، وبهوس يطيب لي أن أدعوه (كوجيتو عطيل) بالإذن من الأستاذ ليسلي فيدلر والذي تحدث فعلا عن الجانب الأسود والحالك لهذه العقدة.

إن مشاعر المواطنة ومفهومنا للوطن تصبح هنا على المحك ، وتبدأ بالتخلي عن التفاصيل النظرية ، وتباشر في الدخول بما هو مضطرب واشكالي ، مع المرور بتفاصيل نفهم منها أنها تقترب من حل لعقدة الرموز الكامنة مع أسبابها ، مثل السلطة الغاشمة والإيديولوجيا الشمولية  والأرض المستباحة. ويجب هنا أن ننتبه أن مثل هذه المفردات (هي أسماء صفات) لا تحب السفور ، ولكنها غالبا تكون مكنية وملثمة . ففي قصيدة الثعالب تأخذ السلطة المستبدة والاستعمار الغاشم عدة ألقاب غير مباشرة، من قبيل: الليل، السد، وما شابه.

مثلما هي الحال في قول الشاعر  : استبحْ أيها الليل سدا يدمدم (مجموعة : جيم).

أو قوله : هنا سيرك العذاب العظيم ( قصيدة ملل – مجموعة : حاء ).

وهذا يتضمن الانتقال من المصدر الثلاثي لمعنى مادة (وطن) على أنه محل إقامة، إلى معنى توطين النفس على شيء أو التمهيد له ، ثم أخيرا إلى معنى الموطن وهو (كما ورد في مختار الصحاح) مشهد من ساحات الحرب. الوغى . الصدام والاختلاف. ومن هذه التحولات الدلالية تنشأ العقدة أو مصدر الحبكة والتوتر ، ودراما المونولوج الغنائي.

** 

إن التجربة  الخاصة في حياة أي شاعر لا تنفصل عن التجربة الموضوعية للمجتمع ، و لذلك إن خصائص التوسيع لصورة الوطن من خلال السياق ، أو إن علاقة الجزء بالكل ، وهو ما يسميه هيغل في أسس علم الجمال : الشيء لذاته ، قد أذنت بالمغيب ، منذ خروج أديب كمال الدين من قشرة البيضة ، إلى الفضاء الشاسع ، إلى العالم ، حيث يمكن لنا أن نكتشف أبعاد الغربة والمنافي ، والم الروح كتجربة شخصية لها أبعاد (مونادا) ، وهذا التعبير الأخير كما نعلم جميعا هو من عائدات لايبنتز.

إن الخلفية التاريخية للمونادا ، هي نفس المفهوم الهيغلي للشيء بذاته ، للموجود المفرد ، أو ما يقول عنه المعلم الأول أرسطو : الروح المفكرة ، وبشيء من التعميم : اللوغوس.

وهكذا كانت للمرحلة الأخيرة ، في جميع أشعاره ، اهتمامات بالحرف والنقطة ، باعتبار أنها حدود أو أجزاء تكتفي بذاتها ، وتساهم في إنتاج السياق ، وليس العكس.

وهذا قدم له الفرصة الذهبية للعودة ، وبتعبير آخر لنفي معنى الوطن ، وللتأكيد على صورة الرجل الصغير ، الذي يبدأ من الصفر ، ليفسر (أولا) ثم يشرح (في وقت لاحق) ماذا يعني أن تكون مواطنا عالميا ، تتساوى بنظرك عمان (عاصمة الملائكة والمشعوذين) مع سدني (مدينة الدولارات والقطارات الطويلة السوداء) ، وبلد تولستوي (المتجمد بالبرد) مع بغداد (التي تعبت من ثياب الدم واللظى). إنها (مدن تتشابه كالموت)، كما يقول في قصيدة (التباس نوني) . وهي أيضا (مدن من صخر وعذاب) كما ورد في قصيدة (دال المعنى). وكذلك إنها (مدن وشوارع مرت كقطار مزدحم مهموم)، كما ذكر في قصيدته (ديوان الأشياء). باختصار إنها أشكال وصور لوطن متبدل ومنتقل ، تتغير أسماؤه ومواقعه فقط، ويحتفط بالحق في معانيه الضيقة والخانقة ، والمتسببة بالحزن والأسى.

أما وطنك ( الحقيقي – بكاف المخاطب )  فهو أنت، وبلدك هو تجربتك الشخصية  وآلام روحك  ومعاناتك ، أو غربتك بما هي ذات ، و لها نشاط ذهني أو تكوين بارتداد (وهذه الفكرة أيضا من استطرادات باشلار).

إن التشابه في الحلقة الأخيرة من مغامرة أديب كمال الدين مع الفن، هي بنفس الوقت مصدر للمفارق والمختلف  من تجربته مع الوطن كمرادف لمعنى السكن أو توطين النفس، وربما اتخاذ قرار بالانتماء.

وان الجرعة الذهنية لتجربة الوجدان مع العالم المفقود، لم يكن يجاريها في التفتح والإزهار، غير التجربة الروحية مع العالم المشكوك به، والذي يضع الذات بين قوسين، نفي وايمان. ومن هذه المزدوجة، السالب والموجب، يبدأ التيار، والصور الأخاذة والمعاني الوشيكة، بالتعاقب.

 

تموز 2010

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home