صيحات النقطة

 شعر: أديب كمال الدين

 

 

 

 

1.

قالَ الحرف:

لم أعدْ مِن نَفْسي بعد،

ضعتُ في نقطتِها القاسية

وتضاريسها المليئةِ بصورِ الموت.

لم أعدْ مِن نَفْسي بعد.

فلِمَ كلّ هذه القصائد الوحشيّة بانتظاري؟

2.

استبدلتُ جلّادي بجلّادٍ آخر،

كانَ الأوّلُ طويلاً وكذّاباً

وكانَ الثاني قصيراً مليئاً بالسمّ.

استبدلتُ أغلالي بأغلالٍ أُخَر،

الأولى كانتْ صدئة

والثانية مليئة بالمجهول.

واستبدلتُ مدينتي بمدينةٍ أُخرى:

الأولى كانتْ بلا هواء أو نساء

والثانية كانتْ بلا ماء أو شمس.

 3.

 لم يعد الشِّعرُ قادراً

على مُجاراةِ ما يجري.

فالواقعُ تحوّلَ إلى مزحةٍ سوداء

يردّدها كلّ دقيقةٍ عقربا الساعة

دونَ أنْ ينظرا إلى الخلف

أو إلى الجمهور.

4.

* هل تتذكّر الجبل؟

- أتذكّرهُ كَلُغْم.

* هل تتذكّر دجلة والفرات؟

- أتذكّرُ دجلة كراقصةٍ تخرجُ من الملهى

تقتلُها الخيبةُ والإعياء.

وأتذكّرُ الفراتَ سكّيراً

يشخرُ أمامَ الملهى ذاته.

* هل تتذكّر الصحراء؟

- أتذكّرُ قمرَ الرعبِ فيها

فأموتُ من الرعبِ فيها.

. 5

* هل تؤدّي، في العادةِ، أدواراً مسرحيّة؟

- نعم،

أُؤدّي دورَ الزاهدِ بفشلٍ تام،

وأطرقُ بابَ الموتِ كلّ يوم

علّه يعطف عليّ

فيدخلني في دهليزه الضيّق.

6 .

 * ما الذي فعلتهُ لتنالَ كلَّ هذا العذاب؟ 

- أظنُّ أنّني حلمتُ بقوّة،

حلمتُ بشغفٍ،

حلمتُ بعنفٍ.

وكانَ حلمي أبيضَ كفراشة

وطيّباً كمعلمِ قرية

ولذيذاً كصباحِ عيد.

 7 .

* هل جرّبتَ الموت؟

- نعم.

* هل أناديه مِن أجلكَ؟

- ولِمَ تناديه وهو ينظرُ إليّ

من خلالِ عينيكَ ويديكَ وكلماتِك؟

8 .

 لكنّني كلّ حين

أنظرُ في المرآة

لأتأكّد أنّني لم أمتْ بعد!

9 .

عجيب

ما علاقةُ المرآة بالموت؟

بل ما علاقةُ المرأة بالموت؟

بل ما علاقةُ المرآة بالمرأة؟

وما علاقةُ الموت بالموت؟

 10 .

المرأةُ مطربةٌ من طرازٍ فريد

تنفخُ الحياةَ في أعضائي

وتقودني إلى حديقةِ البهجة،

إلى حديقةِ الكتابة.

لكنّني أتفتّتُ من الألم.

جسدي صُنِعَ، وا أسفاه، من الرماد:

رماد القصائد المُريب.

 11.  

لاسمكَ طعم الشهدِ على لساني.

نعم،

فبعدَ أنْ شربتُ كأسَ الفراق

وكأسَ اليُتم

وكأسَ الذئبِ في الصحراء

وكأسَ الشمس

وكأسَ الحُبّ

وكأسَ الخيانة.

وأخيراً

بعدَ أنْ شربتُ كأسَ الموت

وطوّحَ السُّكْرُ بي

وألقاني على أرصفةِ العالم،

صارَ لاسمكَ طعم الشهدِ على لساني

يا إلهي.

 12 .

نعم

سكنَ الليل

وسكنَ القلب

وسكنَ البؤبؤ.

صارتْ سعادتي حيّةً

كراقصةِ باليه

تدورُ حولَ جسدها

تدورُ، تدورُ، تدور

حتّى يبزغ الفجر.

13 .

 وقال الحرف:

يا إلهي

لماذا أتحدثُ كثيراً عن الموت

لا عن الفجر؟ 

ألأنّني رأيتُ التابوتَ وجلستُ فيه؟

أم لأنّني أحملُ تابوتي فوقَ ظهري

حينَ يختفي الناس

وأحمله بين ضلوعي

حينَ أدخلُ الأسواق

وأصافحُ السُّوقَة  والببغاوات؟

14 .

 يا إلهي،

ومضةً من نقطتِكَ تخفّفُ من عذابِ قلبي.

ومضةً قبلَ أنْ نفترق،

وتذهب أنتَ مُضيئاً إلى عرشِكَ المُضيء

وأذهب أنا مُظلماً إلى تابوتي الأسود.

15.

ومضةً

يا إلهي

أنتظرها مثلما تنتظرُ الأرضُ العطشانةُ الغيث،

مثلما ينتظرُ المريدُ شيخَه الذي ضاع

قبلَ سبعين دهراً،

مثلما ينتظرُ الميناءُ المهجور

سفينةً، أيّ سفينةٍ كانتْ

حتّى لو كانتْ سفينة القراصنة،

مثلما ينتظرُ البحرُ الغروبَ الذي سيلبسه

لباسَ الدمِ الراقص،

مثلما ينتظرُ اليتيمُ أباه

بعد ألف سنة من الدمعِ والبرد،

مثلما ينتظرُ المحكومُ عليه بالإعدام

لحظةَ إطلاقِ النار.

16.

ومضةً

فلقد أتعبني الرقصُ فوقَ حبالِ اللغة

وفوقَ جبالِ اللغة.

ومضةً

فلقد تعبتُ من الرقص

مشياً على الرأس

ومشياً على الكأس.

وتعبتُ أكثر

من انتقالاتِ نقطتي المُرّة

وصيحاتِها: صيحاتِ الهنودِ الحمر

             وصيحاتِ أطفال الملجأ

             وصيحاتِ الدراويش!

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home