قصيدة (الزائرالأخير) لأديب كمال الدين :

 

الشعر في مواجهة الموت

 

 

 

 

 

علي الإمارة

 

 

 الزائر الأخير     شعر: أديب كمال الدين

 

( 1 )

كان يجلسُ في الغرفةِ المجاورة

شاب أنيق بثيابٍ سود،

ينظر إلى السقف

بعينين فارغتين من أيّ شيء

ويضع على ركبتيه

كتاباً على هيئةِ حقيبة

أو حقيبة على هيئة كتاب.

حين ناداني

دخلتُ مرتبكاً

كجثةٍ تسقطُ في البحر.

قال بلغةٍ مبهمةٍ كلاماً عجيباً

وأشار إلى الكتابِ : الحقيبة

فنظرتُ ، وجدتُ فيها إناءً مكسوراً

( كدتُ أن أغرق بسببه في النهر )

ووجدتُ حجراً

( ضربني به غجريّ فأصابَ قلبي )

ووجدتُ فيها شفتين تضحكان بآلافِ القُبَل

ووجدتُ كؤوساً من العشبِ والطينِ والجمر

وحذاءً من الخمر

وصوراً وتماثيل لأفخاذِِ نساء

ودموعاً بهيئةِ لؤلؤٍ وحروف

وقصائد بكتْ واشتكتْ وادّعتْ.

وأخيراً أخرجَ لي نقطةً حملتْ

ألوانَ الفجر والمغيب

حَمَلها بيده الصفراء المرتجفة

دون أن ينبس ببنتِ شفة .

( 2 )

مددتُ يدي لآخذ النقطة

أعني الإناءَ ، الحجر

الشفتين ، الجمر

الكؤوسَ أو الأفخاذ

الحروفَ أو الدموع .

لم تصل يدي إلى أيّ شيء

ولم يعطني الشابُ أيّ شيء.

كان ينظر إليّ بعينين فارغتين من أيّ شيء

وأنا أذوبُ من الخوف

وأنا أنظرُ إلى النقطة

مدهوشاً بألوانِ الفجر والغروبِ فيها

كجثةٍ تُلقى في البحر .

 

 

 

 

هاجس الموت يتجلّى كثيراً لدى الشعراء ذلك لأنّ الشعر هو صراع على حدود المستقبل وهو بالتالي وقوف على حافة الحياة أو الموت أيضا .. وانّ مجسات الشاعر حساسة جداً لقضية الموت لأنه موضوعها الأثير حيث الأسئلة والتوجّس والخوف والمجهول والوجود والعدم .. وكلّ هذه الحيثيات هي أرضية خصبة لشجرة الشعر وهاجس الموت عند الشاعر .

وقصيدة (الزائر الأخير) للشاعر أديب كمال الدين المنشورة في مجموعة (شجرة الحروف) 2007 دار أزمنة  هي واحدة من تلك الهواجس المثيرة لأسئلة الوجود .. وان كان هذا الهاجس تكاد لا تخلو منه تجربة شعرية متقدمة سواء عن طريق التصريح الضمني أو العلني بعبارات أو أفكار منضوية تحت سياق شعري .. أو أحيانا يتخذ هذا الهاجس شكل قصيدة مستقلة البناء والدلالة تستدعي معالجة فنية خاصة ووقفة مع الموت حين يستحضره النص زائراً أو طارقاً أو مصيراً منتظرا ..

فقد تحيلنا هذه القصيدة مثلاُ الى قصيدة الشاعر محمود البريكان – الطارق –  أو لقصائد شعراء آخرين بنفس العنوان – الزائر الأخير – من ناحية الدلالة والهجس والترقب ولكن خصوصية التناول هي العلامة الفارقة لكل شاعر خاض في لحضة المواجهة والاستحضار نصيا للموت ..

وأعتقد انّ الشاعر أديب كمال الدين وضع لمسته التي تميزه في هذه المواجهة النصية الصعبة التناول . ففي جعبة هذا الشاعر من خبرة شعرية وحرفة فنية وخصوصية حروفية ورمزية.. ما تؤهله لعبور هذا المطب النصي النفسي الشائك ..

من هنا قسّم الشاعر قصيدته الى قسمين لكي يمسك أطراف النص والموضوع معا .. فالقسم الأول يمثل النداء والقسم الثاني يمثل العطاء.. الأول يمثل الحضور – حضور الموت – والثاني يمثل الاستجابة – استجابة الشاعر.  ولكن مابين النداء والاستجابة تكمن قضية الشاعرالحياتية والفنية ففي الحقيبة التي أحضرها الزائر تفاصيل حياة وأدوات فن وتذكير وحساب وانتقال من غرفة الى غرفة أو من عالم الى عالم  :

 

( كان يجلس في الغرفةِ المجاورة

شاب أنيق بثيابٍ سود

ينظر إلى السقف

بعينين فارغتين من أيّ شيء )

 

هذه هي هيئة الزائر.. الفراغ من كلّ شيء سوى من المهمة التي جاء من أجلها التي توضحها الأسطر التالية :

 

( و يضع على ركبتيه

كتاباً على هيئة حقيبة

أو حقيبة على هيئة كتاب .. )

 

إذن فهوالحضور ثم إعلان المهمة ثم النداء :

 

( حين ناداني

دخلتُ مرتبكاً

 كجثةٍ تسقط في بحر )

 

 هنا بدأ الشاعر يمسك بالطرف الأول من القصيدة ويلقي به على عتبة التلقي ليصبح المتلقي شاهداً على هذا اللقاء -  النص الذي تعززه وتوسع من مداه الدلالي محتويات الحقيبة – الكتاب التي هي مفردات الشاعر الحياتية .. ذكريات ، نساء، رغبات ، هزائم ، انتصارات ، الخ  ولكن ثمة قصائد أيضا ! هواجس وشهادات لازمت وعبرت عن كل هذه التفاصيل بالكلمة والحرف .. أما نقطة التماس بين الضيف والمضيف فهي النقطة التي تمثل لحظة الاستلام والتسليم والبلاغ والتبليغ والدخول الى الغرفة -  العالم -  الثانية بواسطة هالة هذه النقطة ومفتاحها الأثيري .. وقد استخدم الشاعر بؤرة ما لديه من حروفيات واشتغال مضنٍ عليها وهي النقطة التي هي مركز الحرف أو الكلمة أو النص أو النفس أو الكون لدى الشاعر .. انها تاريخه النصي كله وضعه في هذه اللحظة الحاسمة لحظة الالتقاء والتواصل مع هذا الزائر – الأخير - .

وهنا يقدم أديب كمال الدين علامته الفارقة في تناول هذا الموضوع وهي خلاصة اشتغاله الحروفي وعلاقته الشعرية الخاصة مع المفردة الذي انشغل هو – الشاعر – بأجزاء هذه المفردة وأعضائها وخلاياها وبدء تكوينها – النقطة . وهاهو يحعلها باباً للدخول أو الخروج الى العالم الآخر – الغرفة المجاورة .

الكتاب منجز والحقيبة سفر وهما الآن يتجاذبان حياة الشاعر وموته .. في اللحظة الحاسمة.

أما المقطع أو القسم الثاني من القصيدة فيمثل الاستجابة والتسليم :

 

( مددتُ يدي لآخذ النقطة

أعني الإناء ، الحجر

الشفتين ، الجمر

الكؤوس .........)

 

النقطة خلاصة العمر ومحتوياته بكل تناقضاتها ومفارقاتها .. محاولة أخيرة للامساك بالزمن . ولكن لا حياة تستعاد وكلّ لحظة من الزمن فائتة أو فالتة  هي لحظة قتيلة لا تعود الى الحياة فعمر الشاعر الفائت هو زمن مقتول وهذا الزائر – الذي ينظر بعينين فارغتين من أيّ شيء – جاء اليوم  بشهادة وفاة الزمن الذي يحاول الشاعر واهماً أن يمسكه او يستعيده :

 

(  لم تصل يدي إلى أيّ شيء

ولم يعطني الشابُ أيّ شيء

كان ينظر إليّ بعينين فارغتين من أي شيء ... )

 

 

 

 

 

 

 

ليس سوى حقيقة واحدة هي النقطة خلاصة العمر والمرآة التي يتجلّى عليها الموت والمدخل أو المعبر من عالم الى آخر .. هذه ميزة أديب كمال الدين على كلّ الشعراء الذين تناولوا هذا الموضوع – اللقاء الأخير -  النقطة التي حفر عليها في اللغة ونقّب عليها في المعنى فكانت لحظة خلاصه ومواجهته النصية مع الموت

 

(  وأنا أذوبُ من الخوف

وأنا أنظرُ الى النقطة

مدهوشاُ بألوانِ الفجرِ والغروبِ فيها

 كجثةٍ تُلقى في البحر .. )

 

وهنا يوصل الطرف الأول من القصيدة بالطرف الثاني لتكتمل جدلية الحياة والموت في النص وليصبح الشاعر شاهداً على انفلات الزمن برغم انهماره في كلّ لحظة ورغم اشراقة كلّ يوم جديد..!

 

 

**************************************

 

نُشرت قصيدة "الزائر الأخير" في مجموعة "شجرة الحروف"  2007- دار أزمنة للنشر والتوزيع - عمّان الأردن

 

نُشرت المقالة في صحيفة الصباح البغدادية بتاريخ 26 - 6 - 2012

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية