قراءة في ديوان: "أقول الحرف وأعني أصابعي"

 للشاعر أديب کمال الدين

رسول بلاوي

   الشاعر أديب کمال الدين له نصيب من اسمه فهو أديب مبدع ومتألق، يتفرّد بتجربته الشعرية الثرّة، إذ إعتمد ثنائية الحرف و النقطة في جميع دواوينه، فهما مشروعه الحياتي والشعري، و لا شك أنّ وجوده الإبداعي يتوقّف على هذه الثنائية... إستهواني اسلوبه الشعري فأخذتُ أتابع ما ينشره في المواقع الکترونية و أقرأ له ما تيسّر لي. قمتُ بترجمة قصيدتين لهذا الشاعر بعنوان « حاء باء » و « صديقي تولستوي » الی اللغة الفارسية و قد تم نشرهما في الکثير من المواقع الأدبية في ايران و الموقع الرسمي للشاعر. و الآن أعود لکي أسلّط الضوء علی المجموعة الشعرية الأخيرة لهذا الشاعر المبدع «أقول الحرف وأعني أصابعي».. فأول ما استوقفني في هذا الديوان هو عنوانه.. ففي ما يلي أبيّن رأيي فيه ممهّداً له بآراء النقاد الذين سبقوني في دراسة هذه المجموعة.

العنوان:

عندما نقرأ ديوان "أقول الحرف وأعني أصابعي" يصادفنا العنوان الذي لا يمكن الاستغناء عنه لأنه نص مواز، وعتبة للإطلال على عالم النص، والملاحظ أن العنوان جاء جملة فعلية الغرض منها إثارة الاهتمام لأهمية الحرف في تطريز المقاطع والجمل الشعرية، التي تتخذ معنى استعارياً يحول اللفظة "الحرف" إلى علامة أو إشارة ترمز إلى الأصابع التي تخطّ وتشكّل هذا الحرف بأساليب مختلفة، بل تضحّي بنفسها لتحترق و تضئ شمعة للقارئ المتعّطش للحرف المعبّر.

والعنوان هنا مثير للمتلقي إلى درجة الصدمة والدهشة، له أكثر من قراءة تركيببية تجعلنا نتساءل عن السرّ في الاستهلال بالجملة الفعلية، وقد تمّ تفسيرها بجملة أخرى فعلية لكن ليست هي معناها الحقيقي، وإنما استخدمت لأغراض أخرى بلاغية، وهذا هو سرّ غموض العنوان وتعدد معانيه ودلالاته، لأنّ لغة الشاعر لغة انفجارية: يكتب بلغة معينة ويقصد من ورائها معاني أخرى. (محمد يوب: التشاكلات السميولوجية في ديوان: "أقول الحرف وأعني أصابعي"، علی الرابط التالي:

 http://www.adeebk.com/plaz/170.htm

يقول الناقد رياض عبدالواحد في دراسته لهذه المجموعة: يضعنا نصيص المجموعة بمواجهة إشكالية قديمة تكمن في الفارق بين الفعلين: أقول وأعني. إذ إن الترادف في اللغة موضوعة خلافية كثر الحديث في تشعباتها. يدل فعل\ القول\ على الكلام، والكلام لا يعني في مجموع أبعاده الأصوات والإشارات التي تنطلق من الفم واللسان، إذ لا بد أن تتشكل في ضوء ذلك حروف لها معنى. أما الفعل\ أعني\ فيعكس ما في الدواخل النفسية، بمعنى انه كلام يتأسس في حاضنة غير ظاهرة تتمظهر لاحقا في القول أو الكتابة ، لهذا قرن الشاعر الفعل\ أعني\ بالأصابع التي تقوم بوظيفة الكتابة، أو قد تترجم ما في النفس من كلام ، وقرن الفعل\ أقول\ باللسان. ويتأسس على ذلك إن فعل القول له صلة بما هو اشاري \ أعني \، وان كان الأخير لا يلبي كل حاجات الإنسان، إذ إن منتج \ الأصابع \ - الكتابة –أقل شأنا من منتج القول – الكلام -، وفي كل هذا الذي قلناه ثمة اختلافات وتباين في الآراء. (رياض عبد الواحد: قراءة في المجموعة الشعرية: أقول الحرف وأعني أصابعي، علی الرابط التالي:

http://www.adeebk.com/plaz/50.htm

الشاعر يبيّن لنا قصده من "الحرف" في هذا الديوان.. فالمقصود من الحرف هو "الأصابع" التي خطّت هذه الحروف، فجاء بلفظة "أعني" هنا للتفسير.

لفظة "أعنی" تُعتَبر لازمة في ديوان «أقول الحرف وأعني أصابعي»، جاءت فی عنوان الديوان و قد وردت بکثرة في قصائده(15 مرّة). أستخدم الشاعر هذه المفردة لتفسير وشرح مغاليق النص و بما أن تجربة أديب الشعرية تجربة حروفية / صوفية خاصة تفرّد بها دون غيره من الشعراء فکان يستلزم عليه أن يبيّن بعض أفکاره رؤاه للقراء و يکشف عن رمزيتها، فأخذ يرکّز علی هذه المفردة للکشف عن رؤيته و فکرته، يقول الشاعر في قصيدة "انسلال" مثلاً:

أقودكِ کي أعاهدك

أن أبقی الليل کلّه،

أعني العمر کلّه،

يقظاً مثل جمرة. ص 43

المعروف عن الليل إنه يستعيد الهموم والأحزان للإنسان، فالشاعر في هذا المقطع قرنَ الليل بالعمر لکي يدلّ علی معاناته وهمومه التي تلازمه طيلة حياته فکأنّ عمره ليل سرمدي يبقی فيه يقظاً مثل الجمرة، فلو اسقط الشاعر الشطر الثالث و قال:

أقودك کي أعاهدك

أن أبقی الليل کلّه،

يقظاً مثل جمرة.

لما اهتدينا الی قصد الشاعر..فجملة «أعني العمر کلّه» تُعتبر جملة تفسيرية تفسر الجملة السابقة و ايضا في المقطع التالي من قصيدة " المطربة الکونية " يقول:

وسنواتي التي أنفقتها

بکرمٍ حاتميّ

علی حروب الطغاة،

أعني علی الموت

وظلماته وشموسه الساطعات . ص102

فقد فسّر الشاعر قصده من «حروب الطغاة»، بـ«الموت» وهي کذلك فحروب الطغاة هي الموت بعينه.

خلال رصدي لـ "أعني" في هذا الديوان تبيّن لي بأنها تکرّرت أکثر من (15) مرّة فضلاً عن تکرارها في عنوان الديوان.

ظاهرة التکرار:

ظاهرة التکرار تعد من الظواهر البارزة فی النص، و لا شك انها ترتبط بعلاقةٍ ما مع صاحب النص فهو من خلال التکرار یحاول تأکید فکرةٍ ما تسیطر علی خیاله و شعوره. و یعد وسیلة من وسائل تشکیل الموسیقی الداخلیة. التكرار لا يقوم فقط على مجرد تكرار اللفظة في السياق الشعري، وإنما ما تتركه هذه اللفظة من أثر انفعالي في نفس المتلقي، وبذلك فإنه يعكس جانباً من الموقف النفسي والانفعالي، ومثل هذا الجانب لا يمكن فهمه إلا من خلال دراسة التكرار داخل النص الشعري الذي ورد فيه، فكل تكرار يحمل في ثناياه دلالات نفسية وانفعالية مختلفة تفرضها طبيعة السياق الشعري..

كان التكرار عند الشاعر أديب کمال الدين مثيرا ً للإنتباه ، وداعيا ً للإهتمام بالشيء المكرر ، ومن ثم فقد حقق تفاعلا ً عاطفيا ً وشعوريا ً وإيقاعيا ً مع المتلقي بكافة أشكاله سواء كان تكرار كلمة ، أو مقطع أو تقسيم ، أو كان تكرارا ً شعوريا ً ، أو موتيفا ً ، وأيا ً كانت صور هذا التكرار فإنه سلّط الضوء على بعض الجوانب اللاشعورية في نفس الشاعر ، والتي تلحّ عليه كأنه لايودّ مجاوزة العبارة المكررة إلى غيرها .

نجد هذه الظاهرة الأسلوبية بارزة في هذا الديوان من اوله حتی أخره، يقول الشاعر في اول مقطع من قصيدة " ثمّة خطأ":

ثمّة خطأ في السرير

وفي الطائرِ الذي حلّقَ فوق السرير

وفي القصيدة التي كُتِبَتْ

لتصفَ مباهج السرير

وفي المفاجأةِ التي تنتظرُ السرير

في آخرِ المطاف    . ص 7

هکذا يبدأ الشاعر ديوانه فقد کرّر الشاعر لفظة "السرير" أربع مرّات ليدلّ علی فداحة هذا الخطأ منذ البداية، الخطأ أو العصيان الذي ارتكبه أبو البشرية (آدم) منذ بدء الخليقة، کما أخذ الشاعر يکرّر عبارة (ثمّة خطأ) في هذه القصيدة تسع مرّات مشيراً له بـ"ثمة" الاسم الإشارة الغريب المتصل بتاء المبالغة، ليدل علی شدّة هذا الخطأ و فداحته، فهو خطأ:

ثمّة خطأ يكبر

وآخر يتناسل

وثالث يشيخ

ورابع يبكي

وخامس يهربُ من منفى الى منفى

ومن دمعةٍ الى دمعة

ومن رمادٍ الى رماد.    ص9

فهو خطأ دخل في جميع تفاصيل الحياة التي ذكرها الشاعر أو التي لم يذكرها ـ وهي كثيرة بالفعل ـ لينتهي إلى تقرير أنه:

خطأ

لا ينسى ولا يتسامح حدّ الموت

يفتحُ بابَ الموت

بهدوءٍ أسود

ويطير.      ص 10

و قد عمد الشاعر الی التکرار في قصيدة «إنّي انا الحلاج»، ص 17 - 19

لا تقتربْ من ناري!

من نارِ قلبي وسرّي،

...........

لا تقتربْ!

أخافُ عليكَ من الصلب

وما بعد الصلب.

أخافُ عليكَ ممّا ترى

................

لا تقتربْ!

أيّهذا الحُروفيّ الذي يقترحُ الحرفَ اسماً

.................

لا تقتربْ!

فلقد احترقتُ قبلكَ ألفَ مرّة

وما ارعويت.

لا تقتربْ!

إنّي أنا الحلاج

اسمُكَ اسمي

ولوعتُكَ لوعتي

ودمعتُكَ دمعتي

ووهمُكَ وهمي

وصليبُكَ صليبي.

فقد کرّر أديب کمال الدين " لا تقترب" في هذه القصيدة خمس مرّات، ، ليؤكد فلسفة الاحتراق والموت. و في قصيدة " زوربا" يکرّر : لا:

ستسخرُ. ممن إذن؟

من الرقص؟

لا.

من الرمل؟

لا.

من الحُبّ؟

لا.

من الحظ؟

لا.

من الخوف؟

لا.

ستكررُ لا ولا ألف مرّة

إلى أن تنهارَ فوق الرمال

والقلبُ ضاحكاً مثل طفل سعيد

يصيح: لا.

وأنتَ من خلفه مذهولاً تصرخ: لا

لا

لا

لا

لا

لا

لا!

کرّر حرف (لا) ليستمرّ في الرفض و ليكون ألقاً في الحياة..

توظيف الألوان:

هناك قیم تعبیریة ذات خصوصیة واضحة في هذه المجموعة الشعرية، کـإستخدام الألوان التی توحی بنواتج دلالیة لا یمکن لغیر الألوان أن تنتجها، فقد يدخل اللون في تکوين الصورة الشعرية بما له من تشکيل بصري و ذوق جمالي يکشف بذاته عن مدلوله و يخترق النفس و القلب و العين و يثير في الانسان الأحاسيس المختلفة من بهجة و انشراح أو حزن و يأس.

أن للشاعر صلة قربى بالفنان التشكيلي من هذه الناحية، غير أن هذه القربى عمّقتْ نصوصه وأغنتها، وجعلت اللون فيها ملمحاً جمالياً من ملامحها، ويرى أن لكل لون من الألوان خصوصيته في الدلالة، وأن لكلّ حالة لونها ولكلّ مقام مقال لوني يعكس نظرة الشاعر للعالم والوجود، فتستحيل ألوانه إلى مرايا عاكسة لذاته وتبدلاتها من الفرح إلى الحزن، ومن العشق والوله إلى اللامبالاة، ومن الوطن إلى المنفى، وهكذا.

في تتبع حرکة الألوان و تکرارها في شعر أديب کمال الدين نجده يعتمد علی بعض الألوان لقيمتها الإيحائية و التأصيلية في بناء الصورة الشعرية وهي علی الترتيب حسب قوّة ظهورها لديه: الأبيض(7 مرّات)، الأسود (5 مرّات) ، الأخضر(4 مرّات) و الأزرق(4 مرّات)، الأحمر (مرّة واحدة) و الأصفر( مرّة واحدة).

اللون الأبيض: ورد اللون الأبيض في ديوان «أقول الحرف وأعني أصابعي»، سبع مرّات تتعدد دلالاته من استخدامٍ لآخر. جاء في صفحة 34 من الديوان:

فسيکون الحرفُ نايك

بل سيکون طائرك الأبيض

محلّقاً في السماء الزرقاء

اللون الأبيض يدلّ علی النقاء و الطهارة و المقصود من الطائر الأبيض هنا القلب الطاهر، أما الطائر في هذا التعبير فإنه يرمز ايضا الی براءة هذا القلب. کما في المثال التالي صفحة 80:

غير أن أصابعي

امتدّت الی قلبي

وخلعتُه من مکانه

وأخرجت منه طائر أبيض

ورمته بإتجاه الجمهور.

فالطائر الأبيض هو القلب البرئ و الطاهر و النقي.

و في صفحة 44 يقول الشاعر:

لأصحو بعدها جسداً أزرق دون قلبٌ أبيض

و في صفحة 58:

والقمر نديمك الأبيض

والشمس بهجتك الخضراء

وفي صفحة 60:

أيّتها الطفولة المتهرّئة

أيّها الفقر الأسود،

أيّها الغنی الأبيض

و جاء في صفحة 71 :

والبحر أبيض

وثوبك – کما أختار له المخرج – أبيض

والشجر الذي يحيط بك أسود أسود.

والثوب الأبيض هو کناية عن القلب الأبيض و الطاهر، يقولون في اللهجة الدارجة فلان ثوبه أبيض و يعنون بذلك طهارة قلبه و نقاءه، وفي الشطر الثالث تکرار لفظة (الأسود) يدلّ علی شدّة قسوة القلوب المحيطة بهذا القلب.

اللون الأسود:

اللون الأسود بالدرجة الأولی يدلّ علی الحزن في تشکيل صور أديب کمال الدين.

يقول في صفحة 10:

يفتح باب الموت

بهدوء أسود

ويطير.

هنا يدلّ علی العنف و القسوة و شدّة الموت.

وفي صفحة 43 يقول:

کنت مطري الأسود الذي حاصرني

وفي هذا التعبير يدلّ علی السريّة و الغموض.

وفي صفحة 60:

أيّتها الطفولة المتهرّئة

أيّها الفقر الأسود،

أيّها الغنی الأبيض.

الفقر الأسود يدلّ علی شدّة الفقر و ضيق العيش و عسره. کما جاء استخدامه في صفحة 98 بهذا المعنی:

وقطعة خبزٍ کبيرة سوداء

اللون الأخضر:

هذا اللون یحمل فی طیاته خضوبة و خضرة، فهذا اللون یرتبط بتأثیره الممتد بالطبیعة الخضراء التی تغطی مساحة الوجود، و کأن أثره اللونی وحده قادر علی احتواء المشهد الذی رسمه الشاعر.

يدلّ اللون الأخضر في هذا الديوان علی الخصوبة و الحياة و النضارة و الحيوية کما فی المثال التالي صفحة 43:

وکنت فجري الذي أشرقت

فيه شمسي الخضراء.

وايضا في المثال التالي صفحة 58:

والقمر نديمك الأبيض

والشمس بهجتك الخضراء

و احياناً يدلّ علی الزهو و الجمال کما فی المثال التالي صفحة 41:

لنری النخلة

ببهائها السحريّ

ولطفها الإلهيّ

وبرکتها الأموميّة

وحنانها الأخضر.

 

اللون الأزرق:

هذا اللون يمثّل الصفاء و الهدوء العاطفي، و مثاله في شعر أديب کمال الدين في صفحة 64:

لتعبر المحيط

متماهياً مع زرقة الماء والسماء

و أحيانا يدلّ هذا اللون في شعر أديب کمال الدين علی اضطراب البحر و قسوته کما في المثال التالي، صفحة 29:

يرقب السفن وهي تغرق

أو تتيه في الأزرق اللانهائيّ

وفي صفحة 52 يقول الشاعر:

أما آن لأمواجك الزرق أن ترتاح.

 

اللون الاحمر:

له استخداماته الکثیرة منها إنه یعکس دماء الشهداء الزکیة .. الّا انه جاء مرّة واحدة في هذا الديوان فی قصيدة البياتي يدلّ علی القوة و الشجاعة و الريادة في المقاومة و النضال:

کنتَ تجيد لبس القميص الأحمر

وحمل لافتة الشيلة و التقدّم والصراع الطبقيّ.   ص115

 

اللون الاصفر:

رمز الخلود والفناء وقوة أشعة الشمس وضآلة شحوب الموت. ونتيجة المأساة.. رأى الكثيرون أن اللون الأصفر رمز لألوان الخريف، حيث تتعرى الطبيعة من ثوب حياتها الاخضر، فيكون الاقتراب في الخريف من الشيخوخة والنهاية والموت..

جاء هذا اللون ايضا مرّة واحدة في الديوان في صفحة 96 من هذه المجموعة:

دع المطر يهطل بغزارة

لتشرق الشمس ، بعدئذ ، بصخبٍ أصفر.

 

المعجم الشعري:

المعجم الشعري هو القاموس اللغوي للشاعر و الذي تکوّن من خلال ثقافته و بيئته و مناخه الذي عايشه، و عليه فليس المعجم الشعري متکرّرا عند الشعراء بالصيغة نفسها، و لکنه أداة الشاعر الخاصة، و التي تعد معيارا تمييز شاعرعن شاعر ما و يعد المعجم الشعري من أهم الخواص الأسلوبية التي علی أساسها يمکن الحکم علی الشاعر، و تبيان ملامحه الخاصة. (بروين حبيب: تقنيات التعبير في شعر نزاز قباني، ص52)

والنصوص الأبية تعتمد علی قواعد لغوية، و هذه القواعد هي التي تحدّد المواضيع في الأعمال الأدبية «فالموضوع هو مجموعة للمفردات التي تنتمي الی عائلة لغوية واحدة». (عبدالکريم حسن: الموضوعية البنيوية / دراسة في شعر السياب، صص 32-33)

والمقصود بالعائلة اللغوية هو الحقل الدلالي و هو بالطبع يختلف عن المعجم، فالمعجم بمفهومه اللغوي يعني تردد لغوي لمفردة بعينها (موت – موت) مثلاً. أما الحقل الدلالي : ورود کل الکلمات التي تدل علی معنی محدد لمفردة الموت مثلا کـ «القبر، الکفن، التابوت، النعش، الوحشة، القفر، الصمت، النهاية...»

 وفي ما يلي نرکّز علی أهمّ المفردات / الموتيفات التي تکرّرت في ديوان "أقول الحرف وأعني أصابعي" للشاعر المبدع أديب کمال الدين و التي شکّلت معجمه الشعري:

الموت:

في شعرأديب کمال الدين ثمة توغل في ملكوت الموت وهذا يعني اشتغال الشاعر بكثافة على آليات هذه المفردة إذ كرّرها کثيرا ناهيك عن المفردات والعبارات التي تتصل بها من حيث المعنى وتختلف معها من حيث الشكل...

فضلا عن مفردة الموت هناك الفاظ  تبرز قضیة الموت و قد تکرّرت فی المعجم الشعری للشاعر..کالقبر و الکفن و النعش و التابوت و ...و هی الفاظ تحمل الموت فی تفاصیله الواقعیة، من غیر أن تفلسفه أو تأخذ منه موقفا فکریا أو عقائدیا..

الدم و الدموع و المطر و البحر هی الکلمات التی یلتقی فی مضمونها الموت و الحیاة، عالم الولادة الجدیدة. و یتراءی من خلالها البعث، و تتراءی القیامة و الانتصار علی الموت.

طالما نجد مفردة "البحر" تلتقي بمفهوم الموت و دلالاته في هذه المجموعة، کالمثال التالي من قصيدة " زوربا":

فکيف السبيل الی ترويضه؟

هل يمکن لرقصةٍ ساحرة

أن تروّضَ البحر؟

أو أن تروّضَ الموت؟  ص 21

وفي المقطع التالي من قصيدة "إنّي انا الحلاج" يقول الشاعر:

ثم يمضي من النهرِ إلى الصحراء

ومن الصحراء إلى البحر

ومن البحرِ إلى الموت،

أعني إلى النار .    ص 19

فلا تکاد تخلو قصيدة من قصائد هذا الديوان من لفظة "الموت" أو مشتقاتها کـ(متّ، الموتی، ستموت،تموتين، يموت، سأموت ....)، فالموت يُعتبر من أبرز الموتيفات في شعر أديب کمال الدين فقد فاجأه حين رآه صبييّاً قبل اربعين عاما:

فاجأني موتي قبل أربعين عاماًّ

فاجأني حين رآني صبيّاً

أحاول أن ألقي جسدي في النهر

من فوق الجسر.  ص 98

 

المرآة:

 تکرّرت هذه المفردة في الديوان بکثرة ففي صفحة 69 مثلاً تکرّرت أربع مرّات.. و في أکثر من مرّة نجدها مقرونة بمفردة المرأة:

الباذخ بمرآتك الکبيرة

أيّتها المرأة المرآة. ص69

ولو أن "المرآة" تشبه "المرأة" بل کأنّها المرأة نفسها الا ان الشاعر يری بينهما فرق واحد:

ومع أنّكِ، أيّتها المرآة،

تشبيهن المرأةَ إلى حدٍّ كبير،

بل كأنّكِ المرأة نفسها،

لكنّكِ

(وهذا هو الفرق الوحيد)

صادقة حدّ اللعنة

وهي (كما أظنّ) كاذبة حدّ اللعنة.  ص 57

الفرات:

الفرات من المفردات المکرّرة في هذه المجموعة و تحمل بعدا رمزيا في النص، إذ ان هذا النهر بالنسبة للعراق مصدر من مصادر الحياة يضخ الروح فيه، لکنه في ظل الظروف السائدة في البلد أصبح ميّتاً :

کيف متّ،

يا فرات الروح

وسينما الطفولة

ومقهی الحلم.    ص59

يقارن الشاعر بينه و بين مصادر الحياة و انهار استراليا البلد الذي يقيم فيه، فيقول في قصيدة "لم يعد مطلع الأغنية مُبهجاً" :

النهرُ هنا يتجدد قطرةً قطرة

ليس کالفرات الذي يدفع ماؤه الضفاف دفعاً.   ص 74

  فيبقی الشاعر يحنّ الی هذا النهر و هو مقيم في الغربة ففي نفس القصيدة يقول الشاعر:

من يعيد اليّ سمك الفرات؟

ومن اليّ مرکبا خشبيا وسط الفرات؟

يحن الشاعر الی سمك الفرات و الی مرکبه الخشبي وسط هذا النهر.. السمك و المرکب الخشبي اللذان يحنّ لهما الشاعر يرمزان الی المسرّة التي يبعثها هذا النهر..

 

السفر:

طوی الشاعر خيمته في بلده العراق مرغماً و راح يبحث عن ملجأ أمن يحقق فيه أمنياته الضائعة منذ الطفولة فتوجّه الی أقصی المعمورة / استراليا بلاد الکنغر:

يکتب لي شاعر من بغداد ويضيف:

"ألم تجد فی الکنغر تسليةً ما؟"

قلتُ له:

لم أجد الکنغر في بلاد الکنغر .   ص73 و74

فالشاعر لا يجد ما کان يطمح له في هذه البلاد التي يعتبرها جحيماً له:

و قرب محطة القطار النازل الی الجحيم.    ص 65

في هذه المجموعة خصّص الشاعر ثلاث قصائد للسفر يشتکي فيها من معاناة السفر و ما تعرّض له في رحلته الشاقّة: قصيدة "في المطار الأخير" و قصيدة "حوار" و قصيدة " لِمَ أنت".

أضناه السفر و متاعبه فقد جرّب أديب جميع انواع السفر، في الأرض و البحر و الجو:

تعبتُ من المحطّات والمحيطات والطائرات.  ص 73

تارة يسافر في الأرض بالقطار (المحطّات) و تارة يسافر عبر البحر و المحيط (المحيطات) و تارة يکون سفره عبر الجو في الطائرة(الطائرات). و کان الوقت وقت شتاء:

حسناً نحن الآن في المطار

(أهو المطار الأخير؟)

السماء ملبّدة بالغيوم

والشتاء هو الوقت.    ص77

عبارة "السماء ملبّدة بالغيوم" تدلّ علی اهوال السفر کما أن الشتاء يرمز الی الجدب و المحن و الصعوبة، فرحلته رحلة صعبة و مليئة بالمحاذير:

هذه رحلة مليئة بالمحاذير

وستستمر دونما توقّف. ص 81

فالشاعر يتشاؤم بهذه الرحلة من اللحظة الأولی فتراه يصف حقيبة السفر بالسواد و هذا اللون کما هو معروف يدلّ علی القلق و الاضطراب و التشاؤم:

يا شاعر الحروف المريرة

رأيتك البارحة

تحملُ حقيبتك السوداء من جديد

حزيناً کقارب مُحطّم علی ساحل مهجور. 91

يفاجئنا الشاعر من الشطر الأول بنتعته الحروف بالمرورة ثمّ السفر في الليل (البارحة)، و الحقيبة السوداء ، ثم حالته الحزينة و القارب المحطّم و الساحل المهجور. فلا شك انّها رحلة مضنية و متعبة للشاعر.

اما الحقل الدلالي للسفر في هذه المجموعة: «الفندق، القطار، المطار، البحر، جواز السفر، الطائرة، الرحلة، الحقيبة ...» و هذه مفردات تدلّ علی السفر و تتردّد بکثرة في شعر أديب کما شاهدنا بعضها في الأمثلة السابقة.

 

 

الغربة:

 الغربة تعني البُعد عن الوطن في كل الحالات، فقد جاء في المعجم الغني" غُرْبَةٌ – (غ ر ب). (مص. غَرُبَ). 1."عَاشَ زَمَناً طَوِيلاً فِي الغُرْبَةِ" : فِي بِلاَدِ النُّزُوحِ وَالْهِجْرَةِ. 2."وَجَدْتُهُ فِي غُرْبَةٍ" : فِي وَحْشَةٍ. 3."طَالَتْ غُرْبَتُهُ" : طَالَ بُعْدُهُ عَنْ وَطَنِهِ وَأَهْلِه" .

  وتتنوع الدوال التي ترمز إلى تصوّر مأساة التشرد في المَـهجر في شعر أديب کمال الدين ، وأولى هذه الدوال هي تكرار مفردات کـ« الموت، السفر، الحزن، الحنين، البحر، الصحراء، الدموع، النار...» و اشتقاقاتها وما يتصل بها من حقل دلالي.

أحيانا الغربة في شعر أديب تقابل الموت و تقابل النار، فنراه يقول في المقطع التالي من قصيدة " إنّي انا الحلّاج " :

ثم يمضي من النهر الی الصحراء

ومن الصحراء الی البحر

ومن البحر الی الموت،

أعني الی النار

وهو يحمل جثّته فوق ظهره. ص19

في هذا المقطع البحر يرمز الی السفر والإغتراب، فالشاعر ينتقل منه الی الموت، و يعني بهذا الموت المحن / النار التي يواجهها الشاعر في غربته. فتبقی تتجدد غربة الشاعر في کل حين:

أيّهذا الغريّ الذي يجددُ غربته

بدمعتين اثنتين

في کل فجرِ

وفي کل ليلة.  ص 17

و في قصيدة  "لم يعدْ مطلعُ الأغنيةِ مُبهِجاً" يصف لنا الشاعر هذه الغربة التي يعاني منها:

غربتي هي غربةُ العارفين

إذ كُذِّبوا أو عُذِّبوا.

غربتي هي غربةُ الرأس

يُحْملُ فوق الرماح

من كربلاء إلى كربلاء.

غربتي هي غربةُ الجسرِ الخشبي

إذ يجرفه النهرُ بعيداً بعيداً.

غربتي هي غربةُ اليد

وهي ترتجفُ من الجوعِ أو الارتباك,

وغربةُ السمكِ إذ تصطاده

سنّارةُ الباحثين عن التسلية,

وغربةُ النقطة

وهي تبحثُ عن حرفها الضائع,

وغربةُ الحرف

وهو يسقطُ من فم السكّير

أو فم الطاغية.   (ص 75)

 

يحاول الشاعر اختراع الکلمات ليصف غربته، فهي لا تنحصر في اقامته في الديار النائية، فهذه الديار بالرغم من قسوتها و شدّتها، فيها شيء من الرفاهية و الطيبة، لکن غربته بدأت تتسع في الفرات / العراق.

 

 التناص القرآني:

إن ظهور التناص القرآني في شعرأديب کمال الدين يدلّ علی ثقافة شمولية عامة، وظفّها الشاعر و استلهمها في تطلعاته و مقاصده و افکاره الشعرية. کان للقرآن نصيب وافر في شعره فالقرآن معين لا ينضب، قد ألهم الشعراء والکتّاب و المتطلعين الی الحرية و الخلاص عبر العصور.

لقد استوحی أديب الکثير من المعاني و الايحاءات و الافکار من القرآن الکريم.. ففي المقطع التالي مثلا من قصيدة "العودة من البئر" يقول الشاعر:

أعرفُ أنكَ كنتَ شيخاً جليلاً

وأنهم – واخجلتاه- استغلّوا

ضعفكَ البشريّ

وبياضَ لحيتِك

ودقّةَ عظمِك.

أعرفُ هذا

وأعرفُ أنهم تركوني إلى الموت

قابَ قوسين أو أدنى (ص 13)

فنری الشاعر يتناص مع الآية التالية: « قال ربي إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا» مريم / 4. کما انه في الشطر الأخير" قاب قوسين أو أدنی" ايضا يتناص مع الآية التاسعة من سورة النجم.

کما وظّف أديب کمال الدين القصص القرآنية وشخصياتها في هذا الديوان بصورة تلميحية لإثراء شعره و نقل مضمونه للمتلقي مشحوناً بروح معنوية. استحضر الشاعر عددا من الأنبياء الذين قصّ القرآن قصصهم فإختار من تلك القصص أقساما تساهم في إثراء نصه الشعري کقصة النبي يوسف (ع) و قصة النبي آدم (ع) و النبي نوح (ع) ... و للشاعر طاقة إبداعية في توظيف القصة القرآنية بحيث تتناسب مع الحاجة العصرية.

كثيرة هي القصائد التي تناصّ بها الشاعر مع القصص القرآنية و شخصياتها ولكننا سنكتفي بالإشارة إلى قصيدة "العودة من البئر" حيث يصبح الشاعر نفسه معادلاً موضوعياً للنبيّ يوسف المعروفة قصته للجميع تقريباً.

تتضمّن قصيدة (العودة من البئر) عتاب (يوسف) الصدّيق (ع) لأبيه فقد إتخذه الشاعر قناعاً للتعبير عن مأساة (كائن ـ كون) في مواجهة كذب الكذابين وحقدهم وأراجيفهم.

لماذا تركتهم يلقونني في البئر؟

لماذا تركتهم يمزّقون قميصي؟

لماذا تركتهم يكذبون،

وأنتَ تعرفُ أنّهم يكذبون؟ ( ص13)

 

تتحدّث هذه القصة عن غدر الأخوة به، وعن معاناته الطويلة في البئر، وعن أبيه الذي ابيّضت عيناه من الحزن وأودعه دمعتهُ الطاهرة.

إذنْ، لماذا تركتَهم هكذا

يرقصون طرباً من لذّةِ الحقدِ والانتقام؟

لماذا كنتَ ضعيفاً إلى درجةِ الوهم؟

لماذا كنتَ طيّباً

كطيبةِ دمعتِكَ الطاهرة؟

ولماذا أورثتني دمعتَكَ الطاهرة

يا أبي؟  ( ص 16)

 

وتدور الصور الشعرية في هذه القصيدة دورة كاملة لتعود بنا مجدداً إلى عذاب المنفى، وظلم الأقربين. ما يتراءى لنا من خلالها، قصة سيدنا يوسف، بكل حمولتها الدرامية، وفجيعة ما حدث لطفل خذله أبوه، فتركه لأخوته القساة، بالرغم من عدم تصريح الشاعر باسم من تدورعليه الدوائر في هذه الحكاية.. و قد عمدَ الشاعر الی توظيف هذه القصة القرآنية بدلالاتها الخصبة في أکثر من قصيدة منها قصيدة "أمطار موسميّة"، يقول فيها:

والخوف

والمجهول

والظلام

وأخوة يوسف

ويعقوب الذي مات بين يديّ

کمداً علی يوسف الذي لم يعد.  (صص 109 و110)

 

و قد استدعی الشعراء الشخصات القرآنية بما فيها شخصية الانبياء، لأن الشاعر أحسّ بأن ثمة روابط وثيقة تربط بين تجربتهم و تجربة الأنبياء، فکل نبي و کل شاعر اصيل يحمل رسالة و الفرق بينهما ان رسالة النبي سماوية، و کل منهما يتحمل التعب و العذاب في سبيل رسالته.

ففي قصيدة "الرقصة" يتقمّص الشاعر كينونة الحرف الممسوس الذي شذّ عن سرب الحروف فـ "أمسك الشمسَ بيده، والقمرَ بشماله":

أم أنا مجرد حرف ضال،

حرف خارج عن القطيع،

حرف ممسوس

أمسكَ الشمسَ بيده

والقمرَ بشماله. ( ص12).

 وهذه الإحالة تذكرِّنا بموقف عظيم من مواقف الرسول الاکرم "ص" التي يعرفها القاريء الكريم جيداً. و ايضاً مفهوم "النبوّة الشعرية" التي أفصح عنها شاعرنا المُرهَف في نص جريء حمل عنوان "في شارع الحشّاشين". ولو تأملنا هذا النص الشعري الكبير لوجدناه يتوفر على مجمل ملامح النبوّة الشعرية. لقد إختار الشاعر شرفة غرفته لكي يطلّ من خلالها على جمهوره الغريب الذي يتألف من السكارى والحشّاشين والنساء العاريات لكي يحدّثهم عن الله والمحبّة والسلام. المُلاحظ أن الجمهور يفتقر إلى الناس الأسوياء أو العاديين، لذلك يمكننا أن نتوقع من هؤلاء الحشّاشين مفاجآتٍ كثيرةً، خصوصاً وأن الشاعر يخبرنا بين ثنايا نصّه أنه بلَغَ السبعين عاما، ولابد لهذا الجمهور، حتى وإن كان مخموراً، أن يتململ ويتذمّر على هذا النبي الكذّاب الذي لم يأتِهم بمعجزة واحدة على مرّ سنوات نبوّته الطويلة.

 " صرخَ أحدهم،

وكانَ في قمّةِ السُكرِ والهيجان:

أيّهذا النبيّ الدعيّ

مللنا من إلهك

وكلامكَ المعسول عنه.

اخرجْ لنا معجزةً

أيّهذا النبيّ الكذّاب!

فارتبكتُ

وارتجفتُ

وجفَّ حلقي

وغامتْ عيناي

ولم أعدْ أبصرُ شيئاً. (صص 79 و80)

 

الغريب أن الحالات التي كان يعانى منها الشاعر النبيّ هي "الارتباكُ، والارتجاف، وجفاف الحلق، وإغيّام العينين وانعدام البصَر" وهي نفس الحالات التي كان تنتاب النبيّ محمد "ص" في أثناء نزول الوحي. ويبدو أن الشاعر الذي ينغمس في الحالة الإبداعية تنتابه نفس الحالات التي تنتاب النبيّ المُوحى إليه، وإلاّ فما هو السرّ في تشابه الحالات التي أوردناه سلفا؟ (عدنان حسين احمد، أقول الحرف وأعني أصابعي...مَنْجمٌ للموضوعات الشعرية)

 

شخصية الامام الحسين(ع):

"تعدّ شخصية الإمام حسين (ع) في الأدب المعاصر من أبرز أبطال الثورة والدعوات النبيّلة، والذي لم يقدر لثورته أو لدعواته أن تصل إلى غايتها، فكان مصيره إلهزيمة،

ولم يكن سبب هذه إلهزيمة نقصاً أو قصوراً في دعوته أو مبادئه، وإنّما كان سببها أنّ دعواته كانت أكثر مثالية ونبلاً من أن تتلاءم مع واقع ابتدأ الفساد اليسرى في أوصاله".(عشري زايد، علي؛ إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ص121)

يبدو الشاعر أديب کمال الدين کان منشغلاً تماماً بالحرف والشروع في كتابة قصيدة هي المشروع الشعري المهم لديه بعد أن قام بأنسنة الحرف وجعله صنواً له ، ليخفف من خشيته في كتابة القصيدة فوق الماء ، غير أنه صرّح لأول مرة برؤية منحازة لقضية الحسين (ع)، لأنه هو- أي الحسين- سرّ من أسرار الحرف (وجدان عبدالعزيز: قراءة في مجموعة أديب كمال الدين: "أقول الحرف وأعني أصابعي") كما يقول الشاعر نفسه:

 

(ورأسكَ ينهبُ التاريخَ نهباً

بدمه الطيّب الزكي

ليكتب سرّاً لا يدانيه سرّ،

ليصبح اسم الشهيد له وحده

سرّاً لا يدانيه سرّ:

سرّ الحاء والسين والياء والنون)

   إذن حروف اسم الحسين من الحروف المقدسة عند الشاعر التي تشعل الحب الحقيقي في النفوس المطمئنة للحق الإلهي والتي أصبحت لائحة يُحتذى بها في التضحية والفداء من أجل كرامة الإنسان وحفظ كلمة الحق:

لبّيك

يا حاء الحق.

لبيكَ يا سين السرّ

وياء السرّ ونون المحبّة.

 

ألقى الشاعر في هذه القصيدة على عاتق الإمام (الحسين) هموم طفولة أيقظها وجع الظلم والشعور بالأسى في مواجهة ما يمكن أن نسمّيه بـ (فتنة الدنانير) التي تُشترى بها الذمم في الأزمنة الرديئة، فها هو في قصيدة (يا صاحب الوعد) يُعيد على متلقيه قصة الغدر التي أعانت الظالمين على المكر والانتقام من دعاة الحق:

يا صاحب الوعد

حملوا رأسكَ فوق الرماح

وطافوا به كوفة الوعد. أيّ وعد؟ 

كنتُ أبصرُ شهوةَ الدينار

تلمعُ في عيونهم الكليلة

وأبصرُ شهوةَ الغدر

في سيوفهم المُغبرّة.

يا صاحب الوعد

كنتُ أركضُ خلفهم

- أنا الشاهدُ الأخرس-

وأكادُ أختنقُ من ترابِ الخيول.

لقد انتصروا!

الله أكبر!

وكانت الدنانيرُ تُلقى على الناس

في كوفة الوعد. أيّ وعد؟

وشعراءُ الكديةِ يهللون

لدمكَ المسفوح

ويمتدحون رمحاً حملَ وعدك

وسيفاً حزّ عنقَ مُحبّ الإله.  (صص 36 و 37)

 

و في قصيدة "الحاء و الألف" يستدعي الشاعر شخصية الامام الحسين (ع)، فحرف الحاء يعني الحق / الحسين وحرف الالف يعني الشاعر / أديب:

قالت حروف الحقّ

وهي تناقش في الألف الشاب:

هل سيُکتب له أن يعيش؟    ( ص67)

و يتطرق في هذه القصيدة الی الکثير من القضاياء التي ترتبط بالامام الحسين:

وحدهُ الحاء

قال: اتركوه فهو شمسي.

هو مَن سيذكرني كلّما هلَّ اسمي.

وسيكتبُ عن رأسي وقد تناهبه الغبار

وحُمِلَ فوق الرماح

من بلدٍ الى بلد

ومن عطشٍ إلى عطش

ومن واقعةٍ إلى واقعة.

بل إنّ رأسي سيكون قصته

ودمي لوعته

وأنيني نبض قلبه.    (صص 67 و 68)

 

يذکر الشاعر قضية حمل رأس الامام الحسين (ع) فوق الرماح من بلد الی بلد آخر، و قضية العطش في اليوم العاشر فکل هذا يجسّم لنا مدی الظلم الذي تعرّض له الامام الحسين و الذي سوف يتعرّض له الشاعر «بل إنّ رأسي سيکون قصته ...».

ثم في ختام هذه القصيدة يستحضر الشاعر قول النبي محمد (ص) في الحسين: " حسين مني و انا من حسين" قائلاً:

قال: اترکوه فأنا منه وهو مني. (ص 68)

وفي قصيدة " لم يعد مطلع الأغنية مُبهجا" يستحضر الشاعر قضية الامام الحسين و يضفي عليها دلالات جديدة وفقا لرؤيته تجاة الظلم الذي تعرّض له نفسه:

غربتي هي غربة الرأس

يُحمل فوق الرماح

 من کربلاء الی کربلاء.   (ص 76)

وقضية رفع رأس الامام الحسين (ع) علی الرماح في هذا الديوان يُعتبر موتيفاً اساسياً يستخدمه الشاعر في الکثير من قصائده، کما جاء في قصيدة " لِمَ أنت؟" :

منذ أن رُفِعَ رأس الحسين علی الرماح    (ص 92)

فالکثافة التکراریة، فی استدعاء شخصية الامام الحسين (ع)، لها أثر فی نفس المتلقی، و التکرار هنا تکرار معنی، و لیس تکرار لفظ، إذ انه اکتسب مواقعه عند الناس من خلال ما قام به من  بطولات، کان لها بالغ الأثر فی النفوس، و الشاعر هنا استطاع ان یوظّف هذه الشخصیة من خلال هذه الکثافة التکراریة للمعنی خدمة لنصه بما ینسجم مع تطلعات المتلقی.. فالإمام الحسين (ع) رمزٌ للحرية والشهادة والخصب والإنبعاث، وهو بمثابة ملاذ آمن للشاعر، يحاوره الشاعر ويخاطبه، راجياً أن يجد بريق الخلاص والطمأنينة. والشاعر يشعر بأنّه عاجز عن التفكير بالحقيقة وهو يطوف حول هذا المخلّص «الامام الحسين (ع)» بحزن شديد، يلتمس منه الحياة والأمل إلى قلبه الميت والمكتئب فهو الأمل الوحيد لبعث الحياة الجديدة والحرية إلى العالم. وشجاعته وكفاحه هما الدواء اللذان سيضمدان جروح المظلومين والأبرياء. كذلك الامام الحسين رمز الإنتصار للقدرة الحقيقية والخالدة لدم الشهداء والمناضلين.

***********************************************

مصادر البحث:

1- ديوان " أقول الحرف وأعني أصابعي"، أديب کمال الدين، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت – لبنان 2011 م.

2- بروين حبيب: تقنيات التعبير في شعر نزاز قباني، ط1، بيروت، المؤسسة العربية للنشر و النشر.

  3- عبدالکريم حسن: الموضوعية البنيوية / دراسة في شعر السياب، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، ط1، 1983.

4- عشري زايد، علي؛ إستدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، مصر، دار الفکر العربي، 1997.

5- عدنان حسين احمد، أقول الحرف وأعني أصابعي...مَنْجمٌ للموضوعات الشعرية، الرابط التالي:

http://www.adeebk.com/plaz/181.htm

6- وجدان عبدالعزيز: قراءة في مجموعة أديب كمال الدين: "أقول الحرف وأعني أصابعي"، علی الرابط التالي:

 http://www.adeebk.com/plaz/179.htm

 الصفحة الرئيسية