عناصر الدراما في شعر أديب كمال الدين

  

د. صالح الرزوق

    يعتمد الشعر العالمي على الحبكة في بنية القصيدة، وذلك لوصف مصادر الدهشة وعلاقتها مع ما يدعوه برتراند روسل بالروح المفكرة أو حكمة الغرب. ويمكن أن نلاحظ نفس هذه الظاهرة في الشعر العربي المعاصر أيضا، والذي لم يخرج من عباءة الأصول (كما لدى يحيى السماوي)، أو الذي اندفع بعيدا مع النابض الوجودي لرومنسيات فردية متألمة وممتعضة ويصعب عليها أن تدخل في لعبة الأمم، ومن هؤلاء أديب كمال الدين.

   غير أن نواة مفهوم الحبكة لديه لم تأت من هذا الفراغ الغامض و العدمي، ولكن من نفس البنية الأصلية لمفهوم الدراما عند العرب. و بالأخص من التجربة الهجينة التي دمجت الرغبة بالتجديد العاطفي (و هو الهدف الذي كان يسعى إليه الفحول أمثال عمر بن أبي ربيعة) و الرغبة بتخطي العجز الشخصي، و ذلك عن طريق اللجوء إلا عالم الأحلام و الأمنيات (وهذا هو أسلوب الخيال الشعبي المقهور الذي يسد عجز الواقع بالأدوات السحرية وبالمنطق الذي مهد للفلسفة ونشاط العقل).

   ولذلك كانت الحبكة في معظم قصائده تتبنى الإطار الدرامي العام للأسطورة أو للحكاية الدينية ، وأحيانا منطق الأولياء والكرامات. ومن الأمثلة على ذلك قصائده: جاء نوح ومضى، دراهم كلكامش، وصف، قصيدتي الأزلية، إني أنا الحلاج، في المطار الأخير، في شارع الحشاشين وغيرها.

   ولهذه القصائد جميعا نفس البنية أو الشكل كالتالي:

مشهد افتتاحي بمثابة تمهيد بطل حزين أو مخدوع في ورطة أشرار خاتمة تعرض الموعظة وبيت القصيد.

وإذا كانت الأدوات السحرية، وهي ما يدعوه النقد البنيوي باسم الأدوات المساعدة (بمعنى التي تمد يد العون لتخطي الأزمات بأساليب تكسر قيود العقل والواقع المادي) قدمت لشخصياته المأزومة طوق النجاة، فهي في نفس الوقت قدمت له الأداة الفنية التي بها يتخطى تراكمات الماضي المتخشب، و يقترب من الضفاف الافتراضية للذهن البديل.

وربما لهذا السبب لم يأل أديب كمال الدين جهدا في تحويل موضوع القصيدة من الوصف والتكوين إلى الحالة والجو الأسطوري، و بالاستناد لتراث بلاد الرافدين، إلى منطق الرحلة. ولكن ليس بحثا عن الخلود لأنه مؤمن وهو واضح بهذا الخصوص، ويعتقد أن (المنية) قيد بشري مقدر على العالم بكل عناصره، و إنماعن الحكمة في معنى البقاء. وبالتالي لتحديد مصادر الإيمان.

    ومن الجدير بالملاحظة أن هذه البنية الدرامية كانت تعتمد أسلوب و شكل الفن الإسلامي، سواء من ناحية تطور الحبكة أو من ناحية الجدوى و تعيين أسلوب الخلاص. و هو شكل هندسي متداخل و متشابه ويقود إلى قصائد متكررة بالموضوع ومتوازية بالأداء و المفردات و تتطور حول نقطة مركزية هي ولا شك اختزال لعين الحكمة، أو لمغزى الحق ، والذي هو الله (عز وجل) الذي يقول عنه في موقف الوحشة :


... لا ملجأ مني

إلا إليّ ( 1 ) .


وبتفكيك هذه القصائد التي بدأت أول شرارة لها في مجموعته ( نون ) ( 2 ) نلاحظ ما يلي:

1 – إن البطل ليس من شخصيات الصف الأول، ولكنه من بين الجموع، وغالبا من الشباب النابهين مثل سيدنا النبي يوسف عزيز مصر، أو النبي صالح صاحب الناقة. وهذا يتفق جدا مع رغبة العامة، بمعنى عموم أفراد المجتمع ، أن يكون البطل المخلص من بين صفوفهم وليس من النخبة كما هو الحال في السير والملاحم الشعبية.

2 – إن الشخصيات الأخرى تعكس مبدأ الصراع بين الخير والشر، و لذلك هي إما طيبة ، و لكنها في حالة عجز و خمول (مثل والد يوسف الشيخ الأعمى والجليل) ، أو أنها شريرة و تضع العراقيل لتأخير النهاية السعيدة أو (و هو الأسوأ) لمنعها (ومن هؤلاء أخوة يوسف الذين كانت أراجيفهم أقسى من ذئاب البراري) (3).

  وفي النقطة الأخيرة يبدو تصعيد جو الإحباط والهزيمة في شعر أديب كمال الدين في إطار الواقع المادي. لذلك كان من المسموح للبطل أن يخسر المعركة ليعكس واقع التدهور الأخلاقي المشين وليس المناقب الخيالية.

 3 – ومن هذا المنعطف الهام من وجهة نظر بنيوية ، و الذي يقطع به الشاعر رأس الرومنسيات ورأس التفكير الخرافي المجاني ، يبدأ التطوير رقم 2 . وهو غياب الشخصيات المانحة. وأقصد بذلك الشخصيات الإستثنائية كالمارد في الملاحم والملائكة أو مشيئة الله في القصص الدينية أو حتى المخبر الذي يحضر في الحلم. و لا يتبقى غير الأحفورة ذاتها. وهي الخوارق والمعجزة والتي بواسطتها يقارع البطل شرور و دنس هذا العالم.

4 – ومن العلامات البارزة على تأثير الواقعية بهذه القصائد أنها تعطي الأولوية للتجريب. وهي لا تتوصل إلى بواطن الحقيقة عن طريق المعرفة المجردة . وهذا واضح مثل الشمس في قصائد ( المواقف ) و التي تتوصل إلى الماهيات المجردة بواسطة المعاناة. إن هذه القصائد المكثفة و المتكاتفة تؤكد على مبدأ وحدة الوجود من خلال الحلول في الأشياء ، و من خلال الفيض الإلهي على الموجودات. أو ببساطة لأنها من أصل واحد ( كقوله الذي اقتبسه حتما من القرآن الكريم : أن الماء هو أصل كل شيء حي) ( 4 ) . لذلك إن البطل هنا هو المفاهيم ، ومن هذه الدراما الإلهية تصعد قدرة الذات الضعيفة للبشر لتقوم بمهمة الاختيار بين الخطأ والصواب.

5 – وتبقى إشارة منطقية أخرى عن تطور الذهن الشعبي إلى ذهن ذات تعقل أدواتها وتتفاعل معها : إما بالتضخيم العاطفي أو بواسطة روح المقاومة أو الوجدان الذي نقول عنه باللغة الاجتماعية: إرادة و أحيانا إصرار وأحيانا وعي. وهذا يتحقق من خلال الخطاب وليس من خلال الدراما أو الحبكة ذاتها. فالشاعر يرفع الستار عن أهدافه حتى ولو فشل في إنجازها. وبهذه الطريقة يعبر عن الحدود العامة للواقع الشخصي ولا يتورط في رومنسيات فارغة وكذلك لا يبشر بالذهن الشعبي المريض والعاجز والمخدوع ، والذي يقبل أن يعيش في ظروف الهزيمة دون الاعتراف بها.

   إن البطل في قصائد أديب كمال الدين ليس فوق شروطه وهو أيضا ليس فوق شروط الواقع الظرفي. ولذلك كان من المسموح له أن يخسر وأن لا تصل إليه النجدة في اللحظة المناسبة وأن يموت وهو يعاني من الألم المبرح ومن عار الهزيمة ولكنه أبدا لا ينسى أن يعلن عن أهدافه ورسالته.


هوامش :


1 – موقف الوحشة. صحيفة أدب فن الإلكترونية. 15 – 6 – 2011
2- مجموعة نون. بغداد. مطبعة الجاحظ 1993 - ط1.
3 - – قصيدة العودة من البئر . أقول الحرف وأعني أصابعي. ص 13 . بيروت 2011 .

4 - – قصيدة موقف الماء. صحيفة صوت الحرية الإلكترونية.

22 – 6 – 2011 .

 *****************************

 نُشرت في موقعي المثقف وصوت الحرية 21 – 8 - 2011

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home