توهّجات حكاية المقهى

(قراءة من الداخل لمجموعة "ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة" لأديب كمال الدين)

مالك مسلماوي

 

 مدخل:

   شرعتُ بتثبيت هذه القراءة, ولمّا أكن قد اطلعتُ بعد على ما كتبه الآخرون  عن تجربة الشاعر أديب كمال الدين, رغبة مني في تحديد وجهة نظر خاصة تتساوق مع صدى التجربة في نفسي, ومدى تفاعلي معها, و تجنبا للوقوع تحت المهيمنات الأسلوبية في العرض والاستعراض, مع كون ذلك يفترق عن منهجية الدرس الأكاديمي البحت. وبعد فراغي مما بين يدي استقرأت مجمل الآراء المكتوبة عن تجربة الشاعر, فوجدتني أجانب الكثير منها, إذ التقت جلّ القراءات حول الحرف ودلالاته اللغوية والتاريخية والصوفية. مما دفع البعض لأن يتساءل: "كيف ومتى سيخرج أديب كمال الدين من شرنقة حروفه ؟" 1 ومن هذا  البعض من ذهب بعيدا– ناسياً أو متناسياً- جوهر موضوعة البحث, وصرف الجهد  في منطقة أخرى. إلا إني توقفت عند طيف من الملاحظات التي تخطت دائرة الحرف  إلى الدائرة الأوسع والأشمل في انشغالات ورؤى أديب كمال الدين. ومن هذا البعض الكاتبة مالكة عسال التي تطرقت إلى خصائص التجربة الأسلوبية في السردية الحكائية حيث تقول: "عانق الشاعر  أديب كمال الدين الأشياء بسردية حكائية وصفية شعرية فريدة, مقرّباً المسافة بينه وبينها في تلاحم ممدد, ولم تنفلت من وصفه الدقيق حتى اللحظات التي ينكب فيها لكتابة الشعر." 2 كذلك ما أورده الكاتب صلاح زنكنه في موقع الشاعر أديب كمال الدين على الانترنت. حيث تطرق إلى البنية السردية والوصف معرجا على ما يطرحه جيرارد جنيت "لا يمكن تصور بنية سردية من دون وصف". لكني لا أميل إلى عدّه شاعرا (وصّافا). فهو شاعر رؤيا , وليس رؤية (مشهد), بمعنى يجيد صناعة أحلامه وأساطيره الخاصة, ولا يتعامل مع الأشياء بحيادية , بل يخترقها ويخلخل وجودها القائم , وبهذا يكون الشاعر اقرب إلى الرسام التجريدي الذي يصور العالم ليس كما هو , إنما كما يقترح أن يكون.. أما (الوصف) فهو اعتراف وخضوع للظاهرة.. من هنا تنطبق مقولة جيرارد جنيت -  من وجهة نظرنا – على السرد القصصي والروائي , ولا تقبل على إطلاقها في السرد الشعري .. وعلى أية حال, أرى أن تميز أديب كمال الدين لم يتأت من جهة معاقرته للحرف العربي وحسب, بل من جهات أخر لا يمكن إغفالها في سبر أعماق هذه التجربة , بل إن هذه (الجهات) تشكل النسق العام , بينما يشكل (الحرف) النسق الخاص في التجربة.. وهذا ما ذهبت إليه القراءة التي نحن بصددها الآن , وقد انحصرت في مجموعة (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة)3... معتقدا أن هذه المجموعة( أجرأ) من سواها في الإفصاح عن التجربة.

             قلت: هل اهتدى أديب كمال الدين إلى طريق تميزه عن الآخرين؟ أمصادفة؟ أم عبر الاشتغال المضني في حقول الكتابة , والانغمار في عالم تشكله الحروف في غياب القناعات الوجودية وجدوى الانسجام ,  في اختزال الفضاء والزمان بحرف , أو بالأحرى بين ثنائية (الحرف والنقطة) , ليشغل بها حيزا من عالمه الخاص ونظرته المشاغبة تجاه الحياة ؟ وهل استوعب الحرف أديب كمال الدين حلما وهاجسا وذهنا؟ وماذا لو حذفنا النصوص المنشغلة بالحرف؟ هل يبقى الشاعر هو هو, أو يفقد خصوصيته ولونه الشعري؟  أو إن الشعر أكثر امتدادا وسعة من الفضاءات المؤطرة. حين يعمل على كسر طوقه المادي الضيق نحو(الميتا مادي) الرحب, ذلك العالم الذي يشكله هو من أسئلته الملحة  وأحلامه المتفاقمة أبدا , والتي تجترح إجاباتها حيال ما هو سائد, عن المعنى والغاية والفرضيات المطلقة .

المبنى الحكائي (هيمنة السرد)

        قلت: إنّ ما يميز أديب كمال الدين ليس في مغامرته (الحروفية) حسب, على فرض الحرف و النقطة يشكلان منطلق مرموزاته إزاء ما هو مزيج من الواقع واللاواقع, من المادي والغيبي, من الخرافة والحقيقة.. إلا انه غالبا ما ينفصل عن هذه الخاصية ليذهب بعيدا في عالم لا متناه خارج دائرة حروفه, وإن كانت هي المعطى الشكلي الخاص في التجربة.. لكن النص يبقى يعبر بشكل صريح عن كونه شاعرا لا يخذل نصه , في الوقت الذي لا يعلّم له الطريق , إنما يفتح له نافذة يطل منها على عالم مفترض قادر على استيعاب همومه ونزواته , ويوفر له طاقة مخيالية , وحقلا فسيحا يكدح فيه , وبابا يطل منه على حاضر تسوده الفوضى والتشتت والاغتراب مما يلجئه - دائما- إلى غسيل الذاكرة. لذا نجد النص يأخذ شكل الحكاية المرتبطة بنيويا بالزمن الفائت .. ولا يفوت القارئ كثرة ما يحويه النص من ظروف زمانية ومكانية وأفعال ماضية , وبخاصة الفعل الناقص (كان) مفتاح ألحكي العربي منذ (كان ياما كان):

" كنّا أولاداً

ولنا أبٌ شيخ

حين غيّبَهُ الموت

لم يترك لنا شيئاً

سوى بئر طيّبة الماء.

غير أنّ أحدنا

لسببٍ ما بال في البئر

فضربه أخوته حتّى كادوا أن يهلكوه..."         جثة في بئر    ص 41

      فالمقطع المتقدم كأنه-  في بنيته الشكلية- من حكايات المقهى, التي تتمحور حول حدث أو ثيمة معينة, تتصاعد دراميا لتبلغ مداها,  ولكن أية حكاية وأية مقهى؟! لاشك إنها حكاية الوعي, ومقهى الوعي المتلبس بالأفكار الفلسفية والسيكولوجية العميقة... فمثلما اغرم الشاعر بالحرف, كان غرامه شديدا وحاضرا بالحكاية, الحكاية المتخيلة ذات الملمح  الأسطوري, الذي يسم النص بالجاذبية والتشويق المستمر. فالنص لذة دائمة , تتصاعد حتى بلوغ الذروة , كما هو فعل الجنس المقتول عند غايته. لكنه (النص / الحكاية) يترك أثرا متوالدا من زخم التساؤلات وما يثيره من تضادات وفتوحات تأويلية واسعة . فالنص – ظاهرا - على قدر بعيد من الشفافية واليسر, في الوقت الذي هو عميق وملغّز ومستفز, وتلك سمة بارزة في شعر أديب كمال الدين... نقرأ:

"لخمسين عاماً

كانَ يرسمُ اللوحةَ ذاتها: لوحة الموت:

امرأة دون عمرٍ محدد

تسوقُ سيارةً سوداء،

سيارة مسرعة

تسوقها امرأةٌ عارية.

عبر نافذة السيارة

ترى ثديي المرأةَ عاريين،

وترى شَعْرَها أخضرَ منثوراً،

وترى ملامحها الساذجة.

خلفها توابيت،

توابيت مَن؟

السيارةُ مسرعةٌ

والرسامُ مرتبكٌ

لأنّ المرأة ذات الشَعْر الأخضر

بثدييها العاريين،

بعينيها الكبيرتين،

بملامحها الساذجة،

تحدّقُ فيه طوال الوقت.

هل كانتْ تدعوه؟

لأيّ شيء؟  

 

              امرأة بشَعْر أخضر      ص 97- 98

          فلوحة الموت هذه, تبدو وكأنها رواية حلم, يرويها الشاعر/ الرسام مازجا بين الواقعة الموضوعية وامتداداتها (الفنتازية).. واهم عناصرها: الإنسان/المرأة , الآلة/ السيارة  , أما العناصر المتفرعة فهي: العري, الشَعْر الأخضر, الثديان, العينان, الملامح الساذجة (صورة المرأة), ثم: اللون الأسود. السرعة  (صورة السيارة). فمن خلال الصورتين المتداخلتين ينتظم السرد/الحكي  بشكله التقليدي , إلا ان ما يشحن النص/ الحكاية بالتشتت واهتزاز الدلالة هو مفارقة الواقع في امتداد الزمن (لخمسين عاما)  وفي التكرار المقصود, فضلا عن التساؤلات , ومنها ما ختمت به الحكاية, لتبقى الاحتمالات قائمة عن مغزى الدعوة : أهي للحب أم للموت , بدلالة شبه الجملة (خلفها توابيت), وهل كانت هناك دعوة فعلا , أم إنها إحساس مجرد..

ثنائية الرمز... ثنائية الوجود

           نادرا ما يخلو نص كمال الدين من بوح أو إشارة أو تلويح جنسي بحضور المرأة وغيابها , حيث تأخذ حيزا لافتا في مسارده الشعرية. ثم ان اشتغاله على ثنائية الحرف والنقطة ( فضح ) لانشغاله بثنائية الوجود المادي :- رجل / امرأة, حياة / موت , بحر / صحراء ...... والوجود المعنوي أسود / أبيض, فرح / تعاسة, نور / ظلمة ..... الخ . فالضد لا يكتمل إلا بضده والنقيض بنقيضه في وجود حتمي تتجاذبه  السعادة والشقاء معا. فالتضاد والتناقض والتقابل... من سمات النص الأساسية, وغالبا ما يتجلى ذلك في استحضار اللون كرمز(اصطلاحي) مشبع الدلالة , ذي مرجعية سسيولوجية . بل إن  اللون يعبر عن هذه الثنائية المهيمنة على عنونة النصوص : هو ازرق وأنت زرقاء / مطر أسود مطر أحمر / خنجر أسود.. صرخة بيضاء ..... نقرأ في نص ( حصان أسود وأحمر) :

"مرّتْ ساعاتُ الذهول

ساعةً اثر أخرى،

وأنا أنظرُ إلى جسدِك العاري

يمتطي الحصانَ الأسودَ ويختفي في الأعماق.

ثمَّ سرعان ما عصفَ بي الشوق

وعذّبني الحبُّ

فالتفتُ إلى حصاني الأحمر.

لم أجده

ووجدتُ الشمسَ تغيبُ على امتداد الصحراء

مثل أسدٍ أحمر.          ص 91

        في النصوص السالفة والتالية يختفي الحرف كمؤصل ترميزي, ليدور  النص حول دائرة الانكشاف الدلالي في إنابة اللون أو الصورة الكنائية أو الاستعارية .. للإبقاء على مستوى الدفق التعبيري/ الإيحائي .. فالشاعر لا يكتفي باستنطاق الحرف ولا يلزم نفسه بالدوران في فلكه دائما, لذا كثيرا ما نراه يتحرر من إغوائه ليرتهن بمحايثات يخلق منها بؤرا ومرتكزات يؤثث منها بنية النص الناضجة بتوهجها السردي الدائم.. مما يدفعنا إلى القول: إن الشكل السردي والبنية الحكائية وراء جمالية النص وسعة تأثيره. إضافة إلى ما يكتنزه من الشفرات والتلميحات , لكنه يبقى نصا سائغا خاليا من الإرهاق والعقد مع ما  فيه من تشظّ  وتداخل وجنوح كما في (عرق ودم):

"كتبَ صديقي الشاعر

قصيدةً عن النجمة

فأصيبُ بالتهابِ السحايا،

ووجدوه بعد أربعين عاماً

ميّتاً في الشارع

وبيده قنّينة عرق.

أما أنا فكتبتُ قصيدةً عن الغيمة

فأصبتُ بالجنون،

ومتُّ في آخر قارّاتِ العالم.

لكنهم, لحسن الحظ , لم يجدوا جثّتي

ووجدوا, بدلاً عنها، قنّينة دم"                   ص 71

    ولو توقفنا قليلا عند حدود النص السابق , خلصنا الى انه نص يتجاوز حدوده, فالمبنى الحكائي/ ظاهر النص, يبدأ بكتابة قصيدة (الثيمة المحورية) وينتهي بالموت (قنّينة دم), وبين الثيمتين كم من الأحداث والمنعطفات والتقابلات : كتبَ / كتبتُ, أصيبَ/   أصبتُ, نجمة  / غيمة, قنّينة عرق / قنّينة دم, وجدوا / لم يجدوا... لكن النص بحدوده الواقعية ينهض إلى فضاء ما وراء الواقع إلى الحلم. هنا تكون كتابة قصيدة لحظة اختيار ينتهي إلى مأساة , ولا مأساة أفضع من موت  تعددت صوره ليغتال الإنسان وهو في أوج عزيمته, ف "الموت خيانة لأوج الاكتمال" كما تناوله فاغنرعلى حد وصف صاحبه نيتشه. وهكذا ينتشر النص أفقيا في البحث عن ذروته المنتظرة .. الذروة هنا هي الموت أو ما يحيل إليه...وإذا كان جلجامش لم  يعدم الأمل في بحثه عن الخلود , فان الشاعر هنا بلا أمل, إنه أكثر وعيا, يعرف قدره ويدرك تماما لعبة الحياة  وحتميتها, ومع حضور قناعاته الناضجة, نجده يرثي نفسه تحت وطأة الألم والغربة : (متُّ في آخر قارّاتِ العالم).

 ذاكرة شيطانية

       إن الذات النصية تكشف بتلقائية عن دواخلها وما تنوء به من هموم يومية وأحلام تعود به إلى الوراء, منفصلا عن اللحظة الراهنة بذاكرة (شيطانية) مراوغة تلاحقه على الدوام , لتدفع عنه ضغط (اللحظة) , لحظة الوعي المهزوم والمشتت.لكن هذه الذاكرة لا تنصاع للموجهات المنطقية والتاريخية..الحال الذي يتيح فرصة واسعة للبوح واللعب بالواقعة كما يشتهي هو (الراوي), أو ما يقترحه النص (المروي) من مفاجآت ومفارقات واستفزاز خارج توقع المتلقي (المروي له) بما يمكن وصفه ب(الصدمة اللذيذة), والنص في أدناه يعطي وضوحا كافيا عن ذات الشاعر المفرغة في أي نص من نصوصه, وفق أسلوب اقرب إلى (اليوميات) , بلغة سردية مركزة:

" كان المشهدُ مغرياً:

صرتُ أجلسُ كلّ يوم عند ساحل البحر

وأكتبُ قصّةَ حبّي بواسطة العظام.

أبدأُ بجمعِ العظامِ الصغيرة

 وأرتّبها واحداً بعد الآخر

حتى أصل إلى العظام الكبيرة.

لكنّي

وا أسفاه

لا أستطيع أن أنهي قصّةَ الحبِّ هذه!

لماذا؟

لأنني أبحثُ عن جمجمةٍ

أضعها في النهاية

فلا أجد!  ...................              ص83

هنا, صورة غرائبية: حب يبحث عن جمجمة, والجمجمة رمز الوعي , فهو حب بلا وعي , مسألة غاية في الالتباس - كما أرى -  إذ إننا مادمنا نحب , لا نحتاج إلى ( شراسة ) الوعي .. لنكشف عن  نقيضين جديدين: الحب / الوعي.. وإذا كان النص – غالبا ما - يجمع بين ثنائية الوعي واللاوعي فينتج صورا مهتزة يصعب تأطيرها أو تلقيها بذائقة تقليدية., فالصورة هنا:

            حب بلا جمجمة  =  بلا رأس  =  بلا عقل  =  بلا وعي

                  حب غير مكتمل //  غير موجود  //   غير ممكن

 فان وصل حدّ الاكتمال , تحول إلى عظام باردة.. أو هو حب محكوم بالموت دائما .. حب ينتهي بانتهاء الجسد .. هنا نجد محورين يتجاذبان  هذه القصة: الحب / الموت, إننا إزاء قصة حب  غامضة , بلا بداية ولا نهاية , قصة تخون الواقع , وتجافيه , بل تسعى إلى إلغائه  والتأسيس لواقعها  الخاص الذي يتسع لدلالات ورؤى مغايرة , لا تألفها الأنساق الذهنية السائدة. "لأن الشعرية تنبني حتما على خلخلة السياقات الرتيبة والتقليدية." 4 ...  وهكذا, فمثلما نشم رائحة الجنس في ثنايا نصوص كمال الدين تباغتنا فكرة الموت دائما, ويبدو انه إحساس طاغ ينتاب الشاعر ويظهر في لحظة وجوده داخل / خارج نصه.

 

هاجس الموت

 

   "إلهي

   أرسلْ إليَّ ذئبكَ: الموت

   حتّى يواجه قلبي الأعزل

   ويمزّقه إرباً إرباً"..........  ( الأعزل)   ص122

 

       في النص الأول من المجموعة: (أصدقائي الأوغاد والمنفيون والسذج) يحتل الموت النص بالكامل , فالموت ومرادفاته ورد لأكثر من عشر مرات, وقد استهلّ ب: (حين جلستُ إلى الساعة/ كانت الساعةُ شابّاً مقتولاً). فهيمنة فكرة الموت على النص تعني هيمنتها على الذات الساردة , إذ إن النص هو الذات / الشاعر , أو ذاته المفرغة في الحكاية .. يقول بابلو نيرودا :(لو كنا متنا قبلا, لو كنا قادمين من تلك الأزمنة العميقة, إذن لزال من نفوسنا الخوف من الموت)5 .. ويبدو إن الشاعر قد جرب الموت مرارا بصوره المتعددة,  وتآلف معه, لكنه يخاف هذه الحقيقة , فيصرخ محتجا:

"كيف يكون-

يا مَن قال: (كنْ فيكون)-

مقتولاً جئتُ إلى الدنيا

وسأغادرها مقتولاً أيضاً؟!)                     ص11

هنا يبدو النفي موتا والحزن موتا والضياع موتا .. إن الشاعر هو واحد من هؤلاء الأوغاد والمنفيين والسذج , الذين هم أبطال هذه الحكاية , أو الحكايات التي تبدو على غرابتها صورا متداخلة الأحداث والألوان والدلالات , لكنها تسحبك دوما نحو العمق في عملية البحث المضنية عن الخلاص , عن السر الخفي في قرارة الأشياء. لذا نرى زخم الأسئلة المعلقة في جنبات الصور وفي نهاياتها الغريبة بلغة ذات نبرة صوفية شيقة:

" قالوا: مَن هذا المقتول؟

وما معنى الساعة؟.."                               ص9

 

" قالوا: ما معنى المرأة؟

وكيف يكون العري أسود؟"                        ص10

 

" كيف يكون اللحنُ على هذا الحال؟

كيف سأصفُ, اللحظة, موتي الأبدي

وضياعي في جسدٍ من لعنةِ الحبّ

وعذاباتِِ الرغبةِِ والشوق؟

كيف يكون الحالُ على هذا المنوال؟               ص10

 

إن سؤال الموت لا يسعه مكان, فهو ينبت ويتفرع في أي نص مهما كانت طبيعته وجوّه العام , ففي (صيحات النقطة) ينعطف الحوار هكذا:

هل جرّبتَ الموت؟

- نعم.

هل أناديه من أجلك؟

- ولم تناديه وهو ينظر إليّ

من خلال عينيك

ويديك

وكلماتك؟!                        ص75

ومع هذه القناعات الدامغة بحتمية الأشياء, وعجز الإنسان والتسليم بقدره , لا يغفل النص استحضار الموت كعلامة نصية راسخة, ينساق نحوها في فجوات الحوار :

سألت النقطةُ الحرف:

كيف تعرّفتَ إلى جنون الموت

ولم تتعرّفْ إلى جنون الحقيقة؟

قال الحرف: لأنّي شغلتُ بنفسي

فأنا الموت

وأنا الحقيقة!                 ص64

 

التماهي مع الرمز

       في النص الثالث (ضجّة في آخر الليل) تتحرر (الأنا) من الضغط , بالتواري خلف المحور الرمزي (الحرف/النقطة) ليأخذ هذا المحور مدياته الدلالية المؤطرة .إلا إن الحرف يوظف -غالبا – كرمز مغلق (يسميه ارك فروم : الرمز العرضي), إذ لا علاقة ظاهرية أو جوانية بينه وبين المرموز له , مما يجعل النص ملتبسا بعلاقات اعتباطية توفر له قدرا من الإيهام أو الغموض , الأمر الذي يجعل القارئ يعول على ما يفصح عنه السياق:

"قالت النقطة:

انظروا إلى هذا الأرعن الذي ملأ

عليَّ الشارع

ضجيجاً وصراخاً.

وقال الحرف:

انظروا إلى هذه الخائنة التي سرقتْ

قلبي وفلذّةَ كبدي

وتركتني أنام على الرصيف..."                   ص22

       فالسياق هنا يحيلنا إلى مشهد مألوف عن علاقة متوترة بين زوجين.. وهو جزء مما تختزنه الذاكرة الجمعية, عن تخلخل الرابطة المقدسة, فالنقطة هي الزوجة والحرف هو الزوج.. ويبدو أن لا مشاكلة بين الرمز(النقطة, الحرف) وبين المرموز له ( الزوجة , الزوج). سوى التأنيث والتذكير في اللفظ (وجود علامة التأنيث "التاء") , لكن السياق يسهم في إقامة هذه الصلة على أساس المشاكلة الآنية .. أما النص فلا يقف عند حد معين , فهو في حركة دائبة , يمتد إلى أكثر من جهة , لفتح أفق المشهد ,فالقصيدة وطن , والناس الكلمات , أما الحروف فهم الأفراد:

صمت الناس

أعني الكلمات

واحتاروا في أمرِ هذه الضجّة الغريبة

آخر الليل.

جاء أحدهم وصبّ الماء

فوق رأس الحرف.

وجاء آخر

ليسألَ الحرفَ عن مدلوله ومعناه.

وجاء الثالث

ليحدّقَ كالمشدوهِ في هذا الحرف

المرمي في آخر القصيدة.

أمّا النقطة

فاختفتْ وسط بيت خيانتها المنيف

لتترك الحرف يبكي ويصرخ ويولول

وسط صهيل الكلمات.

أعني وسط صهيل الناس!                ص22/23

 

       وتفتح هذه الثنائيات حوارات  ذات إيقاع صوفي عميق يتجاوز المعطيات الموضوعية إلى ما يختلط بالبعد الميتافيزيقي المطلق , حينذاك يصبح الرمز أكثر نضجا وأعمق تأثيرا , مما يمنحه القوة في التسامي على التلقي ومطلبية المعنى.. يقول بول ريكور: " يبدو لي الآن أن في داخل الرمز شيئا لا دلاليا بقدر ما فيه من شيء دلالي " 6  فالبحث عن الدلالة لا يوصل إليها دائما , فقد تكون غائبة أو مختبئة في نفق اللاوعي , أو لم تكن أصلا إلا في التداعيات الهامشية للتأويل.

    في نص "حوارات النقطة" يتحرر الرمز من حدود الوصف ويتماها مع رمزية الموقف في توليد الأسئلة:

قالت النقطة: مَن أنا؟

قال الحرفُ: أنا مَن؟

قالت النقطة: مَن أعطاني تاجاً؟

أنا الذي ادّعى كينونتي الأولياءُ والصالحون؟

قال الحرف: مَن سرقَ حذاءَ طفولتي

أنا الذي نسفَ ذاكرتي الكذابون والشويعرون؟

قالت النقطة: هل يكفي أنْ أطلق رصاصةً

على رأسِ شاعري لأموت

وأريحه من عذاب الموت؟ .....               ص60

ويتشظّى الحوار في محاولة  كشف المسكوت عنه  من خفايا الوجود والظواهر الإنسانية  والطبيعية , وموقف الإنسان تجاه قدره ... ذلك كله تحت نظر السارد ووعيه وتجربته وذاته المتوهجة , مما يجعل الحوار اقرب إلى المناجاة الصوفية:

"قال الحرف: هل يكفي أنْ أباغته

بخرابِ الماءِ وفضيحةِ الماء

ليموت كاتبي-

وأموت قبله فرحا دون ذنب؟"....                 ص60/61

* قالت النقطة:

 هل تصدق أن شِعْركَ سيغيّر من كتابِ الثمرة؟

 - قال الحرفُ: لا.

 * وهل سيغيّر من كتاب النهر؟

- قال الحرفُ: لا.

* وهل سيجعل الشمسَ أكثراصفراراً أو احمراراً؟

- قال الحرفُ: لا.

* وهل سيجعل الثدي أكثر لذة أو اخلاصاً؟

- قال الحرف: لا.

قالت النقطة: إذن كلِ الثمرة

أيّهذا المغفل".....                       ص 61/66

        وفي نصوص أخر, يتمحور السرد الشعري حول (الرمز الشامل) أو ما يسميه أريك فروم  ب "الرمز الجامع الذي يرد في الأحلام والأساطير في الحضارات البدائية والمتطورة على حد سواء " 7. حيث تنطلق الحكاية منه .. واليه , فهو يستغرق سيمياء النص كاملا ,  إذ انه الوعاء الذي يمدّنا بالأفكار والتصورات والمعاني .. كما في نص (حمامة):

"يوماً ما

كانت لنا حمامة بيضاء.

أحببناها بشغف،

أحببناها بجنون،

ولأنّ السماء مليئة بالعواصفِ والصواعق

فقد قُتِلَت الحمامةُ فجأةً

هكذا فجأةً.

فأخذتِ أنتِ ساقها الجميلة

وأضفتِ لها ساقاً

وصنعتِ منها سريراً للّذة.

وأخذتُ أنا جناحها الكسير

وعلّمتُه الكتابةَ والحروف

فصار يعلّمني الشِعْر" ..............            ص114

 

       فيما تقدم , حاولت هذه المقاربة تحديد ملامح تجربة أديب كمال الدين الشعرية , ومنها : هيمنة المبنى الحكائي المشحون بعناصر التشويق والتحريض وملامسة وجدان القاري وتحريك أحاسيسه وأفكاره . ومنها أيضا : لغته المرسلة المكتنزة بالإثارة والتأمل, وتوليد الصور الشعرية الجديدة , إضافة إلى ولعه بالرمز والمجاز بألوانه المختلفة ..إلا إن أهم ما في التجربة هو القدرة على استدعاء الواقعة واللعب بها, في فضاءات أسطورية مثيرة تناوئ الواقع وتستفزّه لتنقذه من الانغلاق والموت.. بإعادة خلقه على الدوام في عوالم التخييل الفسيحة... ذلك ما أعتقده يوفر خاصية الإمساك بحقيقة الشعر.. مما يجعلني أعدّ التجربةَ علامةً من علامات الشعرية العراقية الحديثة..

============================================

1-    الحروفي. إعداد وتقديم د . مقداد رحيم .المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت 2007 . مقال: حوار النقطة والحرف . د. حاتم الصكر  ص75

2-    مالكة عسال. مواقع ميدوزا والمثقف وأقلام

3-    أديب كمال الدين- (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) . ط1 2006 أزمنة للنشر والتوزيع

4- ناجح المعموري .أسطورة الثلوج الخضر. مجلة نيفين العدد 18نيسان 2008 ص167

5- مسرحية "تألق جواكان مورييتا ومصرعه" بابلو نير ودا . المقدمة بقلم محمد عيتاني  ص9

6-  بول ريكور . نظرية التأويل. ترجمة سعيد الغانمي . المركز الثقافي العربي

7-    سيميائية النص السردي .الدكتور عبد الهادي الفرطوسي . منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق2007

  

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home