قراءة في مجموعة "جيم" للشاعر أديب كمال الدين

“جيم”: التوجّه الحاسم إلى كتابة العِرْفان شِعْرًا

أ. د. مصطفى الكيلاني – تونس

 

1- “جيم”، من الطيف إلى الحرف أوْ حَال مخاضٍ.

يحدث الإبدال أو ما يُشبه الإبدال عند الانتقال من دائرة الالتفات بحثا عن الأصل/الأصول ليتكثّف حضور الطيف في الأثناء نتيجةَ استحالة إحياء المُنقضي تمامًا وازدحام الصور القديمة إلى مجال كتابيّ حادث بدأت معالمه البدائيّة تظهر في “تفاصيل” و”ديوان عربيّ”. فكان تعقُّب الطيف مُمَثّلاً في طفولة الاسم، طفولة المعنى، وهج البدايات الأولى قد وفّر أرضيّة ملائمة لمخاض كتابيّ حادث، ذلك ما ولّدَ حَركة اندفاع ثانية في مسارّ الكتابة الشعريّة لدى أديب كمال الدّين مُرورًا من تجربة التيه والاستذكار والالتفات ومحاولة إحضار الغائب إلى الحرص على التموْقُع داخل سياق الحرف/الحروف بكتابة كثافة الحضور الّذي يعتمد الاسترهان (من الراهن) عوَضا عن الاسترجاع أو الاستباق بِحُلم الماضي والمستقبل مَعًا.

وكما يحمل كُلّ من “تفاصيل” و”ديوان عربيّ” علامات الاستباق الكتابيّ في مسارّ تجربة الكتابة الشعريّة لدى أديب كمال الدّين يسعى “جيم” إلى الاندفاع والارتداد مَعًا، إذْ يستمرّ احتفاء الشاعر بعناصر الطبيعة والإنصات إلى نداء الذاكرة  وتعقُّب آثار الحنين إلى الزمن المُنقضي ومحاولة تعيين الحلم بأداء كتابة الطيف واستقراء البعض من الأحزان القديمة في حياة الفرد والمجموعة واسترجاع الكثير من تفاصيل الأمكنة واحياء وجوه شتّى من التُراث، كأبي حيّان التوحيدي (إشارات التوحيدي) بضَرْب من التماهي الواصل بين سيرة الذات وسيرة هذا الآخر الماثلة بحضور بارز مُتفرّد في تُراثنا الأدبيّ والفكريّ العربيّ الإسلاميّ لتختصر “الإشارات” تجربة كُلّ من الذاتيْن وتختصر مُحصّل رُؤية العالم والموجود.

2- تجريب الأقْنعة.

لم يقتصر الشاعر على التوحيدي في الاندفاع بأقصى الجهد في كتابة الطيف بالحُلم والحُلم بالطيف قبل خوض تجربة الكتابة الحروفيّة، إذْ يحضُر رَمْز “الشهيد” وتُعاد كتابة الحزن بمُقاربة التخوم القصيّة للحياة والموت عند الوصل بين المحبّة والموت واعادة إنشاء المرثية بوظيفة الأداء المُختلِف عن الغرض الشعريّ القديم (*):

“يبدأ الشِعْرُ من حيث لا تفهمين

أنتِ مرثيّةٌ وأنا

كلْمةٌ بالغتْ في المحبّة ...”

وكأنّ أديب كمال الدّين قبل خروجه من الحيرة بين السُبُل وانتهاج الكتابة الحُروفيّة في الطور الثاني بلغ به الارتباك أقصاه بعد أن أدرك أنّ الطيف لا يُنشئ إلاّ الطيف، وانّ كتابة المعنى بِمنطق اللّغة المعتاد، رغم كُلّ الانزياحات والاستعارات، تُفضِي إلى مَطبّ التكرار. لذلك سعى إلى تجريب الأقنعة الخافتة بالتماهي بين الذات الشاعرة والتوحيدى أو المعرّي، مثلما سعى إلى استخدام الرموز الحيوانيّة، كالهُدهد والنمر والقُنفد، والعناصر الطبيعيّة والتكثيف الرمزيّ حَدّ التعمية لإِحداث معنى شعريّ مختلف داخل منظومة المعنى الموروث المتداوَل. ولم يقتصر على هذا النهْج بل اتّجه إلى النصّ الأسطوريّ باحثا فيه عن إمكان لتوليد معنى حادث. غير أنّ النتيجة التي أفضى إليها البحث عن درب جديد في كتابة الشعر تأكّدت بضرورة اختراق عالم الحرف. ذلك ما تبيَّن في “جيم” و”كهيعص” و”طلسم”.

وإذا “جيم” هو ديوان الفوضى المؤسِّسة نتيجَةَ التجاذُب الدلاليّ الحادّ بين الطيف والحرف، بين مُنفلِت المعنى و تمَوْقُع لحظة الكتابة الحروفيّة.

إلاّ أنّ مشروع الكتابة الحُروفيّة الّذي بدأت ملامحه تتّضح في الأثناء لا يتّجه إلى التعامُل الشكليّ مع الحرف، بل يخترق ظاهر العلامة إلى الرمز المُبْطَن، إلى ما يُكسِب الأيقونة رمزيّتها المُضمَرَة حيث جماليّة الحرف مجال رحب لا يخضع لقيود وحدود، كأنْ يتعالق الاعتقاد والمفهوم الأنتروبولوجيّ          والرغبة في مُقاربة “روح الحياة”.

وإذا تَعَقُّب جماليّة الحرف، بناءً على السابق، هوابعد ما يكون عن التمثُّل الشكلانيّ أو السيميائيّ المُباشر، بل هو التوظيف الجماليّ الشعريّ، تحديدًا، بتناصّ واسع يستقدم التُراث بل التراثات العِرْفانيّة، على وجه الخصوص حيث وجود الحرف رُقية وشفاء للروح واختزال للخلق ووميضٌ لروح الخالق، إنْ تصيّدنا بريق معناه الآخر الغارق في الاحتجاب، وهو ذاك الّذي يتخطّى ظاهر حُروفيّته، دون القطع مع تاريخيّته الأنطلوجيّة والأنتروبولوجيّة كـ”الطاء” في “طلسم” تؤالف وتُفارق بين الانحباس والانعتاق.

3- “الطاء” مثالا على عرفانيّة الحرف وحروفيّة العِرْفان.

طارَ الطائرْ

واشتاقَ إلى تيجانِ النخلْ،

صبواتِ الزيتون وألحاظ الماءْ.

كانَ الطائرُ مهووساً بجناحيه الطفلين

وبنظرته الخضراء لغصنِ اللذةِ.. لامْ.

حامَ الطائرْ

حط ّعلى قلبي الميّتِ أحياه

من كبوته وخطاياه

فبكيتُ كأفعى تُقسَمُ قسمين

ونظرتُ إلى جسدِ السرّ: إلى سرِّ

الطاءِ، إلى طاءِ اللامِ، إلى لامِ السينْ

وإلى سين الميمْ.

كانَ الساحرُ مشتعلاً في أقصى أركان اللذةِ كالتنّينْ

يحرقُ ذاكرةً لحروفٍ أربعة عمياء يراها الأبكم

ويراها الرائي مبصرةً لزمان يتخثّرُ فوق كفوفِ الشيطان.

ضحكَ الساحرُ إذ أبصرَ حيرةَ

هذا الطائر، قهقه كالمجنونْ

ورماه بتيارٍ من فمه الأدردْ.

فاحترق الطائرُ فحماً حتّى وصل الأرضْ

فتلقّاه الساحرْ

بأعاجيب الميم.

حطَّ الساحرُ فوقَ الطائرْ.

ارتفعَ الطائرُ بالساحرْ،

حلّق في صيحاتِ الغيمةْ،

تيجانِ النخلْ،

صَبَواتِ الزيتونِ وألحاظِ الماءْ.

حلّق حتّى تاه.

يبدوالسرد عند ملامسة (طلسم)- المنشورة في مجموعة (جيم)، دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 1989- فتحةً أولى في كثافة النص المغلق، يتراءى نسيجاً يوهم بمرجعية حكائية تضمن الحد الأدنى من الإفهام. وبين سجن “الطاء” الذي يستقطب الأشياء والحركات والحالات وبين الفضاء الآخر يُومَأ إليه بحركة الانطلاق دون معرفة دقائق الحياة المتولدة تتغمر كثافة وجود نصي وتخترق الكلمة مثل سكين لحم اللغة.

يُعدم أديب كمال الدين جزءاً من ذاته المخادعة ليفجر أجزاء غيبها “سوء نية” فُرِضَتْ على جميع الناس في حضارة المنع والتقبّل. ليس النص تدفقاً عاطفياً أو شحنة انفعال فحسب تصب في قوالب مستعجلة أو تركيباً لغوياً تمارس في حدوده لعبة الانزياح الدلالي والمنطقي، ولكنه الانتقال الواعي من مدار العمل الشعري إلى النص: ذلك البناء المفتوح على الدوام يكتمن آلية تُعدم الرتيب وتفجّر قلقاً يتغلغل في نسيج الذاكرة ويحفر في صور الماضي نفقاً إلى مستقبل ملغّز، فيتراءى نصنا الشعري تماثلي الإيقاع الحسي عند القراءة الأولى وإن سعى الشاعر إلى فكّ حصار الرتابة الإيقاعية بالتخلي عن القافية دون نسف كلي لها .

ويقارب النص بعدم التوافق في أحجام “الأبيات” الحرة التمايز بين الظواهر في تركيب الوجود المتصور. ويبدو تركيب النص المجمل شبيها بالهرم أو الجبل يصّاعد فيه النفس ليصل إلى ذروته عند الأبيات الوسطية كي ينزلق في أسلوب تقريري مقصود – حسب الظاهر- ثم يرتدّ كي يخفت في الأخير ويحصل انفراج حدثي ونفسي معا، ممزوج بلوعة آنية ولّدت النص الشعري واكتمنت حزناً لذيذاً لا ينتهي بحدود ويتقنع الشاعر بنسيج حكاية تذكرنا بأجواء الهند أو ما يشبه بلدا شرقيا من آسيا الأسطورة والسحر، ولكن القناع وعاء يتضمن فاجعة ذاتية تعانق الفضاء القومي والعالمي وتريد أن تنطق بما يمكن الإفصاح عنه وما لا يسمح به. والطريف حقاً أن يلتجيء الشاعر في دوامة الحب الغريب إلى خلق جمالية  خاصة  تنسف لتبني عالماً كأنه السراب يتشكّل.

 إنّ الخط العربي في هذا النص توحّد جمالي حافل بالأسرار، فهو إطار المحنة الشعرية، وتقتضي  القراءة أن لا نتعامل مع هذا الخط تعامل الكتابة  وما في الكتابة  من توظيف نفعي، ولكن الخطوط في تشكلها تلهج  بكوامن ذاتية  وهواجس فكرية هي أصداء واقع معيش مهزوزة صوره وأركانه. ولا ندّعي القدرة على الإلمام بجميع التفاصيل. يبدو حرف الطاء ـ نقطة  البدءـ  في النص الشعري  فضاء ملغزاً يشتمل في الظاهر على عنصرين أو صورتين لجسدين  متنافرين  ينفصلان في اتجاهين مختلفين ويلتقيان، فهو شبيه بالدائرة  تنغلق على ذاتها  لتحمل أسراراً عديدة،  وهي الخط أو العمود يبدو للرائي حداً وهو خارج في أعلى  نقطة  من الامتلاء عن دائرة  الابصار.  ويزخر النص بهذا التشكّل الجمالي الجامع بين وجهين للامحدود، إذ الدائرة شكل مبسط للتوحد المطلق والخط انفتاح رقيق المظهر لا يقف في الجانب الآخر من الرؤية عند بياض، وتدعم الطاء تشكلات خطية قريبة  منها في الظاهر كالصاد والظاء والضاد .

ويخرج بنا الشاعر: الرسام بالحروف من تماثلية الوجه الواحد في القسم الأول من النص فينبجس اللام يعقبه السين ثم الميم وتتوالد الحروف في سلسلة من الألغاز الجميلة “سرّ الطاء”، “طاء اللام”، “لام السين”، “سين الميم”. ولاشك أن هذه اللوحة التشكيلية تستمد جماليتها من عناصر قياسية  مباشرة وأخرى تتجاوز المكان وتأسيساته الهندسية إلى زمن وجودي ينسف في الحروف تماثليتها وينفخ فيها روحاً تحررها من التشكيل الساذج، فلا عجب عند ذلك في انتساب الطاء إلى اللام وإضافة اللام إلى السين إشارة إلى إرتباط الجزء بالكلّ وامتلاك الميم والسين. وتخترق الحروف مرجعيتها الجمالية التشكيلية  لتكشف القناع الأول عن حركات سحرية  لا تدرك في وجه التميمة  غير أنها حينما تحرر من سكونها وتتجاوز قيود الحبر والبياض  تصبح وجوداًً يخاتل أعماق الذات،  وتحتاج انفاق الشعور الباطن.

إنّ (طلسم) حركات لغوية في الظاهر توشي موجداً لتحبله معاني وتتوزع إلى موقعين أساسيين هما (الذات ـ المركز)  ينطق بها الضمير المتكلم، وقد تكون ذاتاً حقيقية صادقة تفصح عن ضائقة وتسعى إلى تحقيق الانفراج أو لعلها الأنا تواري أسرارها وتوهم الرائي (بأسرار كاذبة) خوفاً من (أنا الأعلى) المترصد بها في الجانب الآخر  خلف أسوار الرعب العالية  فتطرز ثوباً من اللغة  تخفي بها  فاجعة الفرد والجماعة معا  و(الذات المحيط)  يعانقها  طائر وساحر هما في أول القصيد (المكان والزمان) لا يلتقيان، وفي الأخير يتّحدان.

^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^

    (*) أديب كمال الدين، “جيم”، بغداد : دار الشؤون الثقافيّة العامّة، 1989.

* لاحظنا هذا الاستخدام الجديد المُختلف في عدد من قصائد عليّ جعفر العلاّق، وهي ظاهرة بارزة في الشعر العراقيّ وخاصّة ما ظهر منذ تسعينات القرن الماضي إلى اليوم.

 ** هذا هو الفصل الثالث من كتاب  الناقد  التونسي أ. د. مصطفى الكيلاني بعنوان: "الحرف والطيف: عالم أديب كمال الدّين الشِعريّ (مقاربة تأويليّة)"تونس 2010 (نشر اليكتروني).

 

  

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home