إطلالة على مجموعة (أديب كمال الدين): "أقول الحرف وأعني أصابعي"

 كفّ رسوليّة: حرف مُتعَب

 

صباح القلازين – فلسطين - غزة

  

حين يطلق الناس ضحكاتهم كبالونات ملوّنة في فضاء من الزقزقة العسلية والرحيق المسكر, ترتدي فرحاً معطوباً, وتندس فيهم كخصلة من التعب. تجلس على قمة الحزن, تراقص خرابك الجميل, تومض كنجم حزين في سماء غريبة, وقلبك السندبادي يقطع كل مساء هكتارات البُعد إلى سدرة المنتهى, لتوقّع قبلتك المعتادة على برعم الصبح المتنسك فيك. النهر العالق في عنق الزجاجة تولّه حتى امتلأ القلب شيباً. وبحكم العادة نشتاق ونسافر خلف ظلال الشوق الطافح فينا ويئنّ الشغف, ونمارس عادتنا في الشوق فينبلج السعف. نخل يسّاقط من صلصال الحرف المعجون بأمواه القلب, كم أفرط في الحزن ويبستْ ضحكته مثل رغيف فقير؟

وتعاقر العمر المنسرب من بين أصابعك فتشيب النطف, تستجدي الأوجه رشفة ضوء, فالحلكة قاسية ويصمّ العالم أذنيه, ويغيب خلال غمام الدمع الجسد الضوئي الضالع في الهجرات.

تتهادى كطاووس

على رؤوس القلب

ملتفّاً بدثار من النبوءة

وعلى أناملك عواصف وأنهار

تتهيأ للاشتعال.

عيناك تنفذان من خلال العماء

وتقدحان بالرؤى.

كفٌ رسوليةٌ تمسدّ تعبَ العالمين،

تهوم في الحزن الانساني المشبوح

على وجه الغمر،

تضفي الأمل على رقعة المتعبين.

بصيرتك زرقاء يمامة

صدقت ونحن من الكاذبين.

هزّات شعرية متعاقبة تلفّ الجسد, نشوةٌ غائمة تخترم فضاءاتك. (التوتر) يبلغ ذروته كما يقول (امبسون) ويحملك على محفّة الجمال, يحلّق بك بعيداً حين يتجلّى الحرف بهيّاً غامضاً مصقولاً. تُضاء عتمتك السادرة بمشكاة إلهية, وقودها عراقيّ المنبت- بتُّ على يقين الآن أنّ الشِعْر مسقط رأسه العراق – كلما تصفّحتُ جمالاً طاغياً تبين لي أنه طالع من سعف العراق, من وجع العراق المعمم بحزنه الطويل, من كبر العراق القابع في مزالق الروح العشقية.

يمشي على الماء, يتصيّد شموساً صباحيةً, يكتب على صدر الأرض اسمه بحروف لازوردية, يفترّ عن ضحكة تضيء الكون, ضحكة تضجّ صحةً وعافيةً فيستفيق الكون على بياض كثيف. يغذّ الخطى إلى القلب, يترك فيك  حدائقه المعلّقة والعيون البابلية المغوية, يزرعك أهلّةً ومواعيد فرح رغم ملامح الحزن التي تحفر أخاديدها في كل لفتة. هو الحزن الأخضر حين يفيح جمالاً عميقاً,  حرفه المترع بالدلالات يراوغ يخاتل لكنه يعرف طريقه جيداً إلى القلب لأنه حرفٌ نُحِتَ من ماء القلب.

(الصوفيّ) الذي قارع المنفى بحرف يتيم ونقطة عسلية يقدح ألقاً. قبسٌ موسويّ ضالع في الأضواء, يتحدّر من سلالة الضوء والنار, يشرع في معركة وحشية مع الوجود, تشبه معركة كلكامش مع عشبة الخلود- الشعر أن تكون أو لا تكون- يصوغ ملكه مدماكاً مدماكاً, يراوغ الأفعى والبغي, يرتحل بنا في معراج من الجمال, حيث القصور الحروفية الموشّاة بماء الذهب, والمفتوحة على الوجع الإنساني والبشارات، يهبط عليك في زلاجةٍ تجرّها ثمانية غزلان فيترك فيك صبحاً مقيماً, صبحاً لا ينضب, صبحاً مؤثثاً بكل حياة.

منذ النبضة الأولى للحرف يغدق عليك هباته يستحوذ ويستلب (أوَ ليس الشعر هو القدرة على الاستحواذ والاستلاب والأخذ بمجاميع  القلب؟).

يعي شاعرنا الفرق الهائل بين التعبير والخلق فيقدم نصاً طليعياً مكتنزاً بالإدهاش يفرغ الكلمات من شحنتها السالبة ويؤثثها بشحنات نارية, تنأى بها عن تقليديتها السمجة وظلها الثقيل. الكلمة الطلقة, الكلمة الريح، الكلمة المطر أينما وقع نفع.

(أبو الحروف) ينثال كحزمة ريح,  فيخصف اللاشعراء المعلّقين من رموشهم على باب زويلة. يجلس في منفاه منتظراًَ (غودو) الذي لا يجيء، يندف حرفه كل مساء مثل فتق الغيم, وسماء سوداء تتسع بمحيط القلب, والوطن هلال نائم في بزّة كاكية تقرع طبول الحرب.

مسكونٌ بالتُقى

تطلُّ من غاركَ علينا

فيبرعم اليباس

تنبجس من كفّيك الأعراس

فيتوارى اليتم العالق فينا.

قلبك لوح (ويجا)

وعيناك كتاب تعزيم ورقى

تغرس فسائلَ الحب

والشمع

في كل روح تحلّ بها.

تمسح دمعاً

تجسّر هوّة أرواحنا.

مسٌ من الضوء يتلبّسنا

ويرأب في خوائنا الصدع.

أستشرف هذا الجرح المحمول على نقالة نار بقلب مفطور, وهو يدرع  الوجع الإنساني العريض على الطرقات،  فيئنّ الحرف على شفتي. تنهمر المعاني شفيفةً على شفتي الكفيفة, يُلقي على القلب قميصَ يوسف فيرتدّ بصيراً.

 هيهات مَن يملك لغةً عرجاء أن تسعفه القواميس! أهوّم في الحرف القمري المتفلت من عقال اللغة الحجرية, فتتناسل على أصابعي عصافير وجداول. أدور في أراجيح الحرف كريشة خفيفة. أتعسس في خفّة قطٍّ الحرفَ القادم من أكواخ الصقيع وهو يمرّ خلال حقول الكارثة والمساحات المترملة. يرفع هذي المرّة كتاب الأسماء والوجوه حين تغادرنا على استحياء وتمضي دون وداع. ما بين درّة تاجه هذه ودرّته السابقة حبل من الضوء لا ينبت.

 يراقبُ الحرفُ ندماءَه وهم يمضون حيث الضفة الأخرى من النهر إلى خلودهم الأبديّ على رؤوسهم أكاليل الشوك والغار. هل هي لعنة الشعرالعراقي أن يفيح طيباً على سياج المنافي؟ هل الشعر نديم الحزن والكارثة؟

 يتنسّك شاعرنا في صومعة اللغة, معمماً بحرفه في انتظار زائر لا يجيء تماماً كحارس الفنار الذي اعتزل العالم متأملاً في الشأن الإنساني فعاد بحلم مقطوع الرأس. يتقاطر الموتى، فيأتي الحلاج شيخ المتصوفة المسفوك دمه, ويأتي زوربا وخرابه الجميل, ويأتي مهند الانصاري, ورعد عبد القادر, ويومض أبوه مثل البرق في سماء الذاكرة فيجتاحه حنين كحنين يوسف الصديق المُلقى في الجُبّ, والطريد من قبل إخوته. ذكريات قاتمة ومصير مشؤوم, حبّات المسبحة المنفرطة في رمل القلب تفزّ من سباتها, تقعي في بؤرة التناص, فيرى نفسه فيهم جميعاً رهين المحبسين: حرفه ومنفاه.

القلب الذي يشبه بلورة حمراء على شجرة سرو حاصرها الثلج  يتأرجح كبندول الساعة، يختمر بهدوء، يكتنز سحباً سوداء. وحين يهطل يكنس الغبار العالق في العيون ويستقر فينا شجراً أخضر.

عيناك سلّتا ورد

وروحك غمامة ظليلة

تهطل علينا في زمن الرماد،

زمن الطاعون.

والجراد يلتهم أمانينا القليلة

تشرق أحلامنا

من صومعة العينين الخاشعتين

فتشرئب فينا أقمار جميلة.

أيها الصوفيّ القادم من بلاد النخل

والبيارق المتعبة

ذؤابتاك تنوسان كشمسين

فهل أنت الغائب المنتظر؟

 *******************************************

أقول الحرف وأعني أصابعي- شعر: أديب كمال الدين – الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت – لبنان 2011

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home