صور الحداثة في شعر أديب كمال الدين

بقلم : د. صالح الرزوق

 

اختار الأستاذ الشاعر أديب كمال الدين الحداثة كموقف فني للتعبير عن الرسالة الافتراضية للبديهة المعاصرة. و لكنه كان متردداً بهذا الشأن، فهو لم ينضم إلى موكب الحداثة الكاسح، والتزم فقط بواقع (المتحولات) الفنية.

لقد اكتفى من هذا المخاض (الذي انفصل عنه السياب نحو اليمين، ومن بعده البياتي نحو اليسار) بإعادة تدوير التجربة الإنسانية، و بتصوير كل الأوهام السوداء التي أفلت شمسها. وربما بهذا الخصوص كان أقرب إلى التجربة المتميزة لمحمود البريكان، حارس الفنار القتيل كما يقول عنه (ص 30 – مجموعة أقول الحرف وأعني أصابعي). فهو مثله لا ينكر ضعف الحياة الروحية للجنس البشري (في عالم مفكك) تقوده شعارات النبوة المزيفة (ص 18 – المجموعة نفسها). ومثله أيضا لم يقلل من دور الإيمان في إنتاج وتنظيم القوة الهائلة التي نعزوها للروح، أقلّه كحل مؤقت للأزمة مع الخطيئة. لقد كانت حالة الأستاذ الشاعر أديب كمال الدين شديدة التطابق مع هذا الغموض الوجودي لمطلق الحالة. وكانت  (دائما) في جدل محتدم لمنطق ذهن، أو قلم. ولماذا لا نقول مع ابن عربي (وبمفرداته) لمنطق حرف.

لقد تحدث عن أسباب العطب وكل ما يقف وراءه من إسنادات ومصادر. وأكد أن هذا السياق تفرضه الطاعات، القوة، الضرورة. وأن المعيار هو من طرف القانون، الاتصال مع القواعد، أو ما يسميه في إحدى هجائياته اللاذعة (المساطر الغبية، المقولات الجاحدة، وهلم جرا – ص 18 ، المجموعة).

ولكن بالمقابل، اهتم أيضا بالأعباء الوجدانية للروح ولكل الأفكار التي يصعب تسميتها، و كل الحقائق التي استمدت صورها من الماضي الغامض. بصياغة أخرى: لم يأل جهدا في تأويل المشاعر العامة بواسطة الرموز، مثل بؤبؤ الحزن (ص 14)، لوعة وضوضاء النار (ص 17)، نقطة النص (ص 7 ).. إلخ، حيث تندثر من الصورة كل أركان التشبيه ولا يبقى غير إشارة إجمالية عنه، وهو وجه الشبه (بلغة العلامة خير الدين الأسدي). وهذا برأي الباحث في اللاهوت الأب جون ماكوري: هو نوع من الكشف عن لحظات الألم المستفحل بين الروابط والعلاقات الملموسة.

***

وتقف وراء حداثة أديب كمال الدين أوراق داعمة أخرى  وعلى رأسها النسخة المعدلة من الأخلاق الرومنسية النبيلة، أخلاق البطل الأعزل والثوري المتقاعد. وهو ما يشير إليه على وجه العموم باسم الروح تارة، وبتواتر أقل باسم النفس. فقد وردت كلمة روح (معرّفة 2 مرة ، و مع ياء المتكلم 2 مرة)، مقابل كلمة نفس (معرّفة 2 مرة، و مع ياء المتكلم 1 مرة).

إنها الأخلاق التي تندرج تحتها شتى الأحاسيس المخملية، وكل الصفات التي تصور (الوضع البشري) الضعيف وقوانينه، وبالأخص الصراع المؤلم بين العاطفة ونداء الواجب. وهذا واضح في المترادفات المتعددة التي يبني عليها قصيدته ( اليد ). فهو يضع عبارات مثل يد الحرف أمام حفنة من رماد، أو طائر السلام أمام قصيدة حب مزقتها الطلقات،  و سوى ذلك. (ص 32 – المجموعة).

وإن أية نظرة متأنية لهذه الحفنة من القصائد الوديعة، والتي لا يوجد رابط بينها غير الشاعر نفسه وتجربته مع الحياة، تؤكد أنه استوفى جميع العناصر الضرورية لتمرير خطاب رومنسي بطبعته الوجودية. فهو لا يوفر مناسبة إلا ويقدم لنا أكثر من إثبات على نوستالجيا أصيلة، تجاه الشخصيات والصور والأمكنة. وهذا في إطار عقائدي وديني (بصريح العبارة)، مع إحالات عاطفية لبعض الرموز.

وقل نفس الشيء عن الطبيعة، فهي تشترك معه في جميع الحالات والمواقف. إنها لا تعكس صورته الداخلية (حسب القانون الكلاسيكي لرومنسيات العصر الوسيط) فقط، و لكنها تشترك معه في جميع الانطباعات كخزان لا ينضب من المعاني والحالات، كأن تكون الشمس في حالة غياب معنوي من الصورة في حقبة الهزيمة، وأن تكون السماء مشرقة ومتفتحة مثل أزهار الموسم في فترة الاقتراب من الحقيقة، و لو أنها مؤلمة، كالموت أو ركوب المخاطر أو السفر وما شابه.

وكان هذا كفيلا برسم إطار شخصي لحداثته، إطار ديناميكي و مرن ، إطار غير فولاذي ولا قسري ، يضع هذه التجربة في مكانها الصحيح، عند النقطة التي تغادر فيها الحداثة البريئة و المحايدة من القشرة التي تراكمت عليها.

وباعتقادي إنه في جميع أعماله تتوفر له بطانة من طراز واحد. فهو عندما يكرر (ولنقل يلح) على مسألة الرحلة، يضعنا كأفراد في هذا العالم الظالم أمام مسؤولياتنا الجسيمة: التفكير بمعنى الحياة كرحلة تربط الإنسان في صراط واحد من المهد وحتى لحظة الموت. والتفكير بمعنى الهوية كأسلوب أخير نفسر به حقيقتنا وكذلك نحول به الفراغ الذي يداهمنا إلى مضمون. وفي النهاية التفكير بالموضع، وبالمشقة الناجمة من ألم الفراق. وهذه كناية عن موت الأشخاص والأمكنة الأصلية، وكناية عن إنجاز الفراغ المرعب، أو غياب الواقع السابق دون أي تصور وجودي للتعويض.

*** 

لم تكن حداثة أديب كمال الدين شكلانية، ولكن هي حداثة أفكار ومعتقدات، أو ذهن يتساءل. واستخدمت لتحقيق ذلك أساطير بلاد الرافدين الأساسية والرمز الديني بما ينطوي عليه من قدرة على تحريك الغرائز ، وبالأخص غرائز الحياة في زمن تحاصره ظاهرة الموت (لنقل تجاوزا: الجانب السادي من الفطرة البشرية). ومن هذا الباب كان يتحرى عن طبيعة هذه العناصر، هل هي مجرد نهاية لـ ( شيء ما). أم أنها معبر يقود إلى فضاء من المعاني غير التجريبية.

هل نحن على وشك الرحلة المزمع عليها للبحث عن علامات تركناها على الطريق ، وهي نفس العلامات المحرومة من الصورة، والمحرومة من الأداة. أم نحن في سبات محكوم بفحوى الزمن و جوهره الصامت ، أو متبقيه ، بمعنى أخطائه، كما ورد جهارا في قصيدة ( ثمة خطأ – ص 7 – المجموعة).

إن هذا الاتجاه المتردد والمركب للحداثة قد وضع الشاعر على مفترق الطرق. بين رسالة اجتماعية ومادية وذات تكتيك بصري، أو ذات توجه محسوس، يستطيع أن يتلقى الخطاب الواقعي لمجتمع الأزمة، وهو نفسه مجتمع الهزيمة ومكائد الجيل الضائع. وبين رسالة وجدانية، رسالة ذهن أعزل ومكبوت ، يصور حالة الهيولى التي تسقط منها الحدود باستمرار، وحتى أنها تبدو من غير هوية واضحة، مجرد صفة، أو وضع بشري شائك.

لقد كانت المكونات في شعر أديب كمال الدين من مصادر عاطفية، ولكن لها مردود جدلي. ويمكن للجدول التالي أن يبسّط هذه الفكرة.

المكون

الأسلوب

المجال

الأدوات

التركيب

الواقع

المحاكاة

الحواس

أسماء و أشياء

محور أفقي = صراع

الذهن

التحليل

الوجدان

أفعال و مشاعر

محور شاقولي = هدنة

 

 
 

 

 

 


وكما يبدو كانت لهذه التصورات صيغة حداثة معدلة ومشذبة ، أو كان لها دينامية خاصة: تحديث شاقولي، ومتحول أفقي، وبهما عبرت عن الانشقاق المؤلم للغايات والوسائل، ثم عن تفسير مشكلة المصدر: لماذا إنه يحتفظ بمسافة من الشك والتأنيب تجاه الأصول. ولماذا يلجأ إلى تأويل المتبقي– أو الأثر بتعبير جاك دريدا، من خلال أخطائه وانحرافاته، وهو ما يدعوه أديب كمال الدين بصورة غير مباشرة: الهو – نفسه. أو ما يقول عنه بالحرف الواحد: إنه خطأ يشبهني تماما، مثلما يشبه البحر نفسه (ص 10 – المجموعة).

*********************

أقول الحرف وأعني أصابعي – شعر: أديب كمال الدين – الدار العربية للعلوم ناشرون- بيروت- لبنان 2011

 د. صالح الرزوق- جامعة حلب - كانون الثاني 2011

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home