الشاعر أديب كمال الدين ل(المؤتمر):

 

      تركتُ العراق في أوضاعٍ قاسية

 

 

حوار: فيصل عبد الحسن

 

كيف تركتَ أهل الشعر في العراق، وما مصير الحداثات الشعرية التي تجيء عادةً من أرض أهلنا في كلّ مرّة؟

 

عادة ما يجيء جديد الشعر من العراق، هذه مسألة أكيدة. أرض العراق، أرض طافحة بالصراع والألم العظيمين، والصراع والألم هما طينة الشعر الأولى، إضافة إلى موضوعة الحرية بالطبع، أرض العراق هي أرض الموت والقيامة من الموت، أرض الكلمة الأولى والمدرسة الأولى والحرب الأولى والقانون الأول والملك الأول والظلم  الأول، أرض الارتباك والبحث المجنون عن اليقين، أرض العبث والمعنى، أرض الجدوى واللاجدوى، أرض من يملكون الذهب أكداساً ومن يملكون الحلم ودياناً ومن يملكون الإيمان جبالاً ومن يملكون الرغبة في الحب والجنس  والقتل والرعب  وإذلال الآخر بحاراً وأنهاراً. هذه هي أرض العراق: أرض حيّرت العالم، وها هم شعراؤها يتنفسون الجديد والتجديد على الدوام، لأن الشاعر العراقي لا همَّ له غير الشعر، كائن شعري نسي نفسه وجسده وأطفاله وعمره وانشغل بالشعر انشغالاً لا أول له ولا أخر. والعراق قبل كلّ شيء وبعده، أرض تراث الشعر العربي، ولابدّ أن ينعكس هذا التراث في نفوس أبنائه فيكتبوه ويعيدوا إنتاجه في كلّ مرّة  بشكل مفاجأة  تدهش العرب في كلّ وقت. هكذا خرجتْ قصيدة الشعر الحر في العراق وقصيدة النثر وقصيدتي: قصيدة الحرف. يحدث هذا والعراق يعيش ظروفاً لا توصف مصاعبها وساعات لاتعرف دقائقها وأحوالاً شديدة القسوة. لكن ذلك يخدم الشعر، فالشعر كما هو معروف، هو الاستجابة الانسانية السريعة للحدث الاحتدامي قبل أيّ جنس أدبي آخر  

 

هل معاناة شاعرنا العراقي تشابه ما يعانيه شعراء في دول أخرى؟!

 

كلّ الشعراء يبحثون عن الجمال وسره وفرحته المستترة، كلهم يدعون إلىالسلام والتأكيد على الأخوة  البشرية، كلهم يؤكدون على قيمة الحبّ السامية وخلاصة الأكيد للبشرية، كلهم يقدسون الحرية ويرفضون العبودية  والاضطهاد، كلهم يرون الله في خلقه (وإن اختلفوا في زاوية النظر) ويلمسون عظمته وجبروته وسطوته ولطفه (وإن اختلفوا في درجة التصريح بها). وجدتُ هذا جلياً واضحاً متماسكاًعند شعراء الهند والصين  وكوريا واليابان  وغانا ونيوزيلندا وانجلترا وأستراليا وأمريكا، وجدتُ ذلك كله وترجمته بفرح حتى انني شعرت، أحياناً كثيرة  أن الشاعر واحد وأن اختلفت الأزمنة والأمكنة. إنه الإنسان بمعناه الشامل العميق. لكن يبقى للعراقي امتياز تحويل العذاب والحرمان والألم الأسطوريّ إلى شعر عميق. فالمعاناة العراقية تقترب من درجة اللاوصف لشدتها وغرائبيتها وجنونيتها

 

وماذا ترجمت من الشعر العالمي إلىالعربية؟

 

ترجمت قصائد لجيمس ريفز، إيديث ستويل، آن سرايلير، وليم كارلوس وليمز، والاس ستيفنز، دنيس  لفرتوف، كنيث ركسوث، و.ه.أودن، كاثلين  راين،  اليزابيث ريديل، بات وايت،  وشعراء من كوريا وغانا والصين واليابان، كما ترجمت مجموعة كبيرة من القصص العالمي  والمقالات النقدية والفكرية والعلمية، لكني أجد في ترجمة الشعر لذة أكبر لأنّ جملة الشعر العصيّة على الترجمة تحتاج  لمن يطوعها، في اللغة المترجم اليها، تطويعاً وبذا يظهر تفرد المترجم واضحاً وبخاصة إن كان شاعراً

 

نعود إلى شعركَ، ونسألك كيف يتسنى لنا استلهام المعاني الصوفية في معناك الشعري؟!

 

أنا لا أستخدم المصطلحات  والمعاني الصوفية  كما هي في التراث الصوفي المعروف بل استخدمها،  في الغالب،  كما أفهمها أنا: أنا الذي احتوى فيَّ العالم  الأكبر، أنا  بناء الله ملعون من هدمه، مستنداً في ذلك على ثقافتي القرآنية والدينية والتراثية مع ثقافتي المعاصرة، ثم إنني أمنح المعنى الصوفي معنى حسياً، والحسية، كما أعتقد، هي جوهر الشعر. إذن، أنا أبعد الشعر عن السقوط في الذهنية التي هي ألد أعداء الشعر، وأحاول، على الدوام، أن أقود المعنى الصوفي إلىالمعنى الشعري لا العكس. ففي مجموعتي نون، (وكنت أنتَ أفضل من كتب عنها مع الدكتورة  بشرى موسى صالح) أعطيت للنون معنى الحب الكبير قبل كلّ شيء، فغازلتها وراقصتها ووصفت محاسنها وجمالها وامتدحتها، وقبّلتها  قبل أن أحرق جسدي وروحي لأذوب في النون ذلك الذوبان المطلق 

 

لقد أعطيتَ بعداً جديداً للقصيدة السبعينية في العراق، لكن شعراء السبعينات لا يعترف أحدهم بالآخر إن قدم شيئاً جديداً ويتجاهل الجميع الجميع عكس شعراء الستينات في العراق الذين كانوا يبشرون بتجارب بعضهم البعض،  لماذا، برأيك، هذا التجاهل  لمنجز الجيل؟!

 

سؤالك هذا يعيدني إلى الوراء بسرعة، الكراهية السبعينية مضى عليها زمن طويل - ثلاثون عاماً -  ولم تعد تنفع بشىء لأن كل شاعر سبعيني عراقي ـ أعني من بقي يكتب منهم ـ أصدر عدداً من المجاميع  الشعرية:  ستة فأكثر، وبدت ملامح شعره الجمالية والفنية، وتألقت بصمته الشخصية ـ إن كانت هناك بصمة ـ  وكتب عنه النقاد ولم يعد عنده مايخفيه البتة. إذن، هذه الكراهية والبغض والتجاهل لم تعد تنفع أحداً ولم تعد تحقق شيئاً. لا أكتمك، كان عدد لا يستهان به من شعراء السبعينات مصاباً بأمراض جنون العظمة، والشعور بالأهمية المطلقة، وإنكار الآخر مهما كان الآخر ومهما كانت تجربته، فوصموا أنفسهم بصفات أقل ما يُقال عنها إنها بشعة. ولكن أين هم الآن؟ أين هو منجزهم الأبداعي؟ هذا هو السؤال الخطير؟ لقد بقي شاعراً مَن كان شاعراً حقاً، وخفت صوت المجانين والأدعياء وربما صمت إلى الأبد. أقول هذا قول المشفق لا قول الشامت، فإنسانيتي تشمل في طياتها حتى المجنون والدعيّ ومنكر الآخر

                

هلا أخبرتنا عن سنوات العمر التي أمضيتها وأنت تحاول كتابة  قصيدة  الحرف كما تسميها، هل ذهبتْ جزافاً أم انها أضافت شيئاً جديداً للشعر العراقي الحديث؟!

 

الحق يقال إن ما من شيء يعوّض عن شيء آخر. فالشباب الذي ينفق عبثاً لا يرجع البتة،  وفراشات الحبّ الأول التي طارت منذ زمن بعيد لا يمكن استعادتها، وغيوم أحلام المراهقة رحلتْ عاليا ًعالياً، وكم ركضتُ خلفها دون جدوى، والأمكنة التي انهارت على نفسها لا يمكن إقامتها من جديد. لكن الحرف ـ  أو هكذا أظن ظناً جميلاً له القدرة على أقامة ما لا يُقام أو استعادة  ما لا يُستعاد.

 نعم، فالحرف هنا يلبس لبوس الشعر، والشعر هو أغنية البشرية  الأولى وهي تحاول جاهدة أن تلمّ حطام نفسها، وهي تخرج مخذولةً مرتبكةً من الطوفان أو الحرب أو الزلزال. دعنا نحلم، يا صديقي، فالحرف وهم جميل. دعنا نصدّق أنَّ  للقصيدة شمساً تخلقها وأقماراً بيضاً ترسلها أنّى تشاء.

 دعنا نحلم أنَّ الشعر يستطيع أن يداوي الجريح ويقود الأعمى ويرجع الغائب ويفرح القلب الكسير. دعنا نحلم  فالشعر حلم، والحرف، كما أرى، هو جوهر الحلم بنونه ونقطة نونه.  

 

 

 جريدة المؤتمر اللندنية العدد 293  - 23 شباط 2002  ص9

 

 

الصفحة الرئيسية  

ر