في حوار مع الشاعر العراقي أديب كمال الدين:

لقد عالجتُ كوارث الدنيا وظلامها الكثيف بالحرف!

 

 

 

حوار: عبد الغني فوزي- المغرب



أديب كمال الدين شاعر عراقي، له نبرته ونكهته الخاصة في الكتابة الشعرية، يعتبر من جيل السبعينات من القرن السالف في العراق. لكنه لم يتأطر ضمن جوقة أو حساسية، بل أقام مساحاته الشعرية أو قل إمبراطوريته الحلمية في الحرف والنقطة، وظل يكتب بهما أليافه السارية في كل ماء موصل. من أعماله الشعرية نذكر: "تفاصيل" سنة 1976، "ديوان عربي" سنة 1981، "جيم" سنة 1989، "نون" سنة 1993، "النقطة" سنة 1999... و"أربعون قصيدة عن الحرف" سنة 2009. وفي المقابل لهذا المد الرحيم، تداولت كتاباته قراءات نقدية عديدة من اتجاهات وأجيال مختلفة، كلها ترى في مسار حرفه مادة شعرية لا تنضب في القراءة والتأويل. بمناسبة صدور ديوانه الأخير "أربعون قصيدة عن الحرف"، حاولنا التوقف مع هذا الشاعر العالق ببال الحرف بين أرضين، أرض الحنين وأرض المهجر. هنا مساحة أخرى للحوار المضيء للكثير من مفاصل تجربتة الإبداعية الغنية.

ـ ديوانكم "أربعون قصيدة عن الحرف": مسار شعري في الغربة والضياع. ما هي  حدود الواقع والمتخيل في هذا المسار؟

* هناك اندماج بين الواقع والمتخيل على نحو عميق في ديواني هذا بل في دواويني كلها. فمن الواقع آخذ شرارةً يوميةً: حدثاً يومياً ما، وغالباً ما يكون مليئاً بالوحشة والدمع والأسف، لأنطلق في كتابة نص شعري له أذرع متخيّلة أسطورياً أو خرافياً أو تراثياً أو روحياً أو سحرياً. وفي هذا أتجدد كتابيّاً متخلصاً من الوقوع في دائرة اليومي الرتيبة أو في تكرار النواح على ما قد حدث، وراسماً، في الوقت نفسه، محاولةً شخصيةً في إعادة كتابة الأسطورة أو الخرافة أو التراث أو الروح وصولاً إلى كتابة أسطورتي الشعرية وهي أسطورة حروفية كما تعرف.

 

ـ هناك حضور لافت للموت ومسحته في نفس الديوان، لكن في ما يبدو لي أن الموت يُساق كملامح من خلال تجربة في الحياة والكتابة. تعليق الشاعر أديب كمال الدين؟

 * لقد سكنني سؤال الموت الكبير وسكن روحي وجسدي، حتى أن ناقداً مثل د. حسن ناظم كتب في إنتباهة نقدية نادرة على الغلاف الأخير لكتاب (الحروفي) الذي أعده د. مقداد رحيم واحتوى دراسات ل33 ناقداً  تناولوا تجربتي الشعرية، كتب: "الحروف التي يطلقها أديب كمال الدين تعبر عن حيوات كاملة، وذوات فريدة، وعوالم نابعة من التخييل المبدع. الحروف احتجاج على عوالم الظلم، والضياع، والحرب، وهي خيّرة وشريرة، حيّة وميّتة، بل هي ألغاز ومفاتيح لفكّ المستغلق من هذه الألغاز نفسها. الحروف أيضاً انسجام وتنافر، إنها التناقض المطلق. وهي، من جهة أخرى، أدوات، ووسائل، وغايات، استعملها الشاعر ليحاول استبيان غموض العالم الداخلي، وغرابة العالم الخارجي، من دون أن يقرر بلوغه الفهم الأخير لكلّ شيء، فكلّ شيء يبقى مفتوحاً ومنفتحاً على المزيد من استعمال هذه الأدوات في البحث الروحي. ومن هنا تكون الحروف وجوهاً للشاعر نفسه، فهو أيضاً ذات فريدة، وتخييلي مبدع، ومحتجّ على عوالم الظلم، والضياع، والحرب، وهو حيّ وميّت، إنه التناقض المطلق أيضاً." انتهى كلام الناقد.

  وما يهمني هنا على وجه التحديد من هذا الرأي قوله إنني "حيّ وميت". وهذا منتهى الدقة في التشخيص. لم يقلها ناقد آخر بل قالها د. حسن ناظم، فشكراً له. نعم الموت يسكنني. لكنه لا يُفسد عليّ متعة الحياة بل يجعلني أطيل التأمل في أسرارها العجيبة والغريبة والمتناقضة. ربما لم يستطع الموت الساكن فيّ أن يفسد الحياة لديّ بسبب أن "كمية" الحياة التي يحملها جسدي كبيرة جداً، الحياة بمعنى الانشغال والاستمتاع والانغماس بمفردات الأمل والشوق والحب والجنس والعمل والقراءة والكتابة ومحاولة استيعاب السرّ أياً كان اسمه أو معناه، ولذا لم يستطع الموت بجبروته ورعبه أن يفسد عليّ أصول لعبة الحياة حتى كتابة هذه السطور!

  ولعل من أسباب سكن الموت فيّ هو أنني أعتبر كتابة الشعر هي بمثابة احتجاج على الموت: هذه النهاية الغامضة التي ستنقلني دون إذن منّي إلى عالم آخر لا أفقه منه الكثير بل لا أفقه منه شيئاً بعبارة أكثر دقة! وهكذا تزواج عندي الموت والشعر في جملة واحدة أو كلمة واحدة او حرف واحد أو نقطة واحدة!

 نعم إن الموت هو الحرف الأعظم. إنه الحرف الذي لا يسبقه حرف ولا يدانيه حرف. والحرف والحروفية، بل  الشعر والشعرية، إنما هي احتجاج على الموت وتنديد به، ومحاولة للالتفاف عليه وتحجيمه وتخفيف سطوته وحضوره وعنجهيته وعبثيته.

  هذا أولاً وثانياً: إنني مررتُ بلقاءات مباشرة وغير مباشرة مع الموت وقد تركتْ في روحي أثراً لا يمّحي. وسأذكر لك بعضاً منها. ففي طفولتي عشتُ تحت رعاية جدتي وهي امرأة صالحة رحمها الله. كانت تحبّ زيارة قبور الأئمة والأولياء والصالحين وبخاصة زيارة ضريح الإمام علي(ع) في النجف. ومعروف أن في النجف أكبر مقبرة بشرية في العالم هي مقبرة السلام. فكان مشهد آلاف القبور المتناثرة على صحراء النجف الشاسعة، ومشهد الجنائز التي لا تتوقف عن الوصول إلى المدينة، ومشهد النساء المتشحات بالسواد والنائحات النادبات على أمواتهن، كلّ هذا المشاهد العجيبة والمخيفة قد تركت فيّ، وأنا لم أزل طفلاً صغيراً، أسئلةً كثيرةً ومفزعةً عما يحدث هناك، عن الموت: هذا القاتل الغامض السريّ الذي يحصد الناس حصداً. كانت زيارات جدتي إلى النجف لا تتوقف ولا تنقطع فهي "أمنيتها" الوحيدة في الحياة! وكنتُ أنا مرافقها الوحيد الذي لا يعرف من الدنيا شيئاً سواها!

  ثم إنّ في النجف قبوراً عجيبة من حيث الهندسة والبناء والتصميم وبعضها موجود في سراديب كبيرة تحت الإرض. بل إن بعضها مدفون في بيوت النجفيين. وقد هالني وأنا طفل أن أرى القبور وسط البيوت والناس من حولها- أعني الأحياء-  يأكلون ويشربون ويمارسون كل شيء بصورة طبيعية!

   وفي صباي مررتُ بتجربة موت قاسية. فقد توفي والدي رحمه الله بين يدي وأنا في السنة الرابعة عشرة من العمر ولم يكن هناك أحد في الدار سواي. ورغم أنه أسلم الروح بهدوء عجيب- إذا عانى من الشلل النصفي لثلاث سنوات وكان يتمنى الموت كل يوم- فإنني ذهلتُ لما حدث ولم تهبط الدمعة من عينيّ الاّ بعد شهور. لم ينطق الرجل بكلمة واحدة البتة. لم يقل وداعاً حتى. نظر إلى عيني فقط وهو مضطجع على الفراش وأسلم الروح. كان المشهد صعباً وقاسياً على صبي مرهف مثلي أن يواجه الموت وحيداً على هذه الصورة المؤلمة بحق.

  وفي شبابي التقيتُ بقتلى الحرب: الحرب العراقية الإيرانية. وكان مشهد القتلى القادمين بالعشرات بل بالمئات بل بالألوف- حين يشتد أوراها- يقلقني بل يمزّقني من الأعماق. كان الموت نشطاً جداً في حصد الرؤوس، رؤوس الشباب من الجنود العراقيين ومن الإيرانيين أيضاً. لماذا؟ كانت الأبواق الإعلامية العراقية تصوّر الحرب نزهةً! وتصورها إنتصاراً تاريخياً! وكان عليّ أن أصف الموت وأتعايش معه- فأنا جندي أيضاً- وأخفي ملامحه في قصائدي لتستطيع القصيدة أن ترى النور في زمن البروباكندا الإعلامية الشريرة التي استمرت شديدة الصخب في حرب عبثية ما بين(1980- 1988) لتنتهي الحرب بصيغة لا غالب ولا مغلوب. والحقيقة الصارخة كانت تقول بخسارة البلدين خسارة هائلة إذ مات الملايين من الجنود وأهدرت المليارات من الدولارات لشراء الأسلحة الفتاكة. وإذ خرجتُ من الحرب سليمَ الجسد لكن شيئاً ما قد مات في داخلي! لقد مات شبابي، إذ أنفقت عشر سنوات من أجمل سنوات عمري في مؤسسة الجيش الغبية وحرب العبث  الأغبى هذه!

 ومع إنني حاولتُ اخفاء حروف الموت في قصائد مجموعتي(جيم) التي كتبتها في الثمانينات. لكنها تناثرت- أي الحروف- في هذه المجموعة وما بعدها من مجاميع شعرية عديدة ليصبح الموت واحداً من مواضيعي الشعرية الدائمة الحضور بقوة.

  وفي دخولي رحلة التصوّف منذ الثمانينات وتعمّقي في مسافاتها الكبيرة يوماً فآخر وسنة فأخرى حتى الوقت الحاضر، فإنني اكتشفتُ بعمق مخيف كم هو هشّ هذا الكائن الذي يُدعى الإنسان وكم هو معطوب!

كم هو ضعيف ويدّعي القوّة!

كم هو مسكين ويدّعي العظمة!

كم هو فقير ويدّعي الغنى!

وكم هو عبد ويدّعي الحرية!

وكم هو زائل ويدّعي الخلود!

هكذا فقد دخلتُ في معنى الموت وفي ظلال معناه!

 

ـ وأنا أقرأ ديوان "أربعون قصيدة عن الحرف" لمست نوعا من السيرة عبر سرد شعري، وبالأخص تلك العودة للمكان الأول والذاكرة. كأنك تحيا بين أرضين، أرض الواقع وأرض تتوق إليها باستمرار. كيف يمكن الفكاك من أسر الأرض الأولى،  ولو في الشعر؟

* كل شاعر مهاجر أو مغترب أو منفيّ يعيش في المابين ويموت في المابين. الأرض التي أتوق اليها باستمرار هي أرض ما مضى من الأيام أكثر مما هي أرض ما يأتي من الأيام. فالماضي يبدو سعيداً في القصيدة ممتلئاً بالحياة حتى إن كان حزيناً في الواقع ممتلئاً بالخسارات والخيبات. الخيال الشعري يصنع منه أرضاً سعيدة ضمن أكاذيبه السعيدة.

 إن واحدة من إشكالات المهاجر والهجرة أو النفي والمنفى المهمة هي درجة الإحساس العالية بتفاصيل الحياة اليومية إلى درجة متعبة حقاً. ليس هو القلق الذي يهيمن على الروح فقط بل الأحاسيس الشديدة الوطأة التي تجعل من الشاعر مرتعاً للإنفعالات على أنواعها. فإذا ما تذكرنا أن الشاعر أصلاً هو روح قلقة، ولولا هذا القلق ما كتب الشعر، سنصل إذن إلى حقيقة حضور القلق المضاعف الحي على مدار الساعة عند الشاعر المهاجر أو المنفيّ لتصبح مهنة المنفى مهنةً شاقةً كما قيل دون أية مبالغة من أي نوع كان.

لكن هذه المهنة الشاقة التي تفتك بشاعرها تمنحه من جهة أخرى فرصة أن يكتب شعراً إنسانياً صافياً وعميقاً بعيداً عن الرطانة والضحالة والتغميض (وليس الغموض) والفراغ الشعري، وهذا هو العزاء الوحيد. وهو عزاء شديد الأهمية على أية حال.

 

ـ أنت شاعر حروفي كما درجت على ذلك العديد من القراءات النقدية في تجربتكم، حفرت مجرى خاصاً في الحرف والنقطة ، فتحولت الحروف إلى وسائل وأدوات بحث، بل فضاءات للإقامة. أسألك هنا، كيف تجدد حروفك في كل ديوان، مثلا "أربعون قصيدة عن الحرف"؟

* شكراً لهذا السؤال الدقيق. نعم أنا أحاول أن أتجدد وحروفي في كل ديوان وأحاول بقوة أن يكون تجددي واضحاً ملموساً. ولأنّ الوصول إلى الحرف لم يكن سهلاً، أعني اتخاذه عنواناً وطريقاً، اتخاذه قطباً ومريداً، اتخاذه وطناً أو شظيّة وطن، بل مرّ في طريق طويلة من الألم والمكابدة والمعاناة والبحث القاسي،  لذا كان تعرفي اليه منذ البدء مليئاً بسرّ التجدد على الدوام.

 إنني أعتقد أن الحرف العربي الذي حمل آخر المعجزات السماوية يمتلك 12 مستوى هي المستوى الدلالي والتراثي والروحي والتشكيلي والخارقي والترميزي والإيقاعي والطلسمي والأسطوري والقناعي والسحري والطفولي. وفي كل مجموعة شعرية جديدة أكتبها تكون المحصلة تجديداً حروفياً شعرياً قد تمّ من خلال تقنيات شعرية متعددة يأتي في مقدمتها التركيز على مستوى أو مستويين أو أكثر من مستويات الحرف. فأحياناً يتم التركيز على المستوى التشكيلي للحرف أو على المستوى القناعي أو الروحي...إلى آخره. طبعاً هذا يتم بتلقائية عالية وشفافية واضحة بعيداً عن القصدية.

  بدأت الرحلة الحروفية بجدية مع مجموعتي (جيم) حيث كان اللقاء الحروفي قرآنياً وصوفياً في أول الأمر. ثم صدرت مجموعتي: (نون) وهي تحلم ببهجة المحبّ وحليب العصفور وهلال العيد والحلم والنوم والجمال المهلك والهالك  بعيداً عن الحرمان والارتباك والقمع. كانت النون رمزاً لمحبة كلّ شيء قريب وفي متناول اليد كما القمر في متناول يد المجنون وهو يرى صورته منعكسة فوق سطح الماء! وفي مجموعتي (أخبار المعنى) كان هناك حوار عميق بين الحرف والمعنى: حوار الجحيم والحرمان والخسارة. لكن (النقطة) كانت هي الكينونة دون شك. ففيها السرّ الأعظم وفيها الطلسم الذي لا يفكّ رموزه أحد وإن ادعاه الجميع لقداسته وعمقه ولطفه الذي لا يعرفه سوى الخواص وخواص الخواص. ومنذ صدورها، بدأ النقد ينظر إلى تجربتي الشعرية باهتمام خاص بل بشغف واضح فهو قد وجد نفسه إزاء مشغل شعري جديد.

 وستكون مجموعتي: (حاء) حاء الحبّ والحرية والحنان دون شك، لكنها حاء الحرب والحريق قبل ذلك وبعده، وهي حاء الحلم الجبار الذي يكاد أن يختصر الشعر كله ومعناه كله وغموضه الذي لا حدود له. وقد صدرت لي  بعدها (ما بعد الحرف.. ما بعد النقطة) لأبدأ هذه المرّة مع الحرف رحلةَ النفي الجغرافي الذي سيعمّق الوجع ويطلق أسرار الروح كلها. نعم، فهذه المجموعة كُتِبت في البلد البعيد: أستراليا. ثم عمّقتُ في البلد البعيد المنجز الحروفي أكثر فأكثر في: (شجرة الحروف) فكان الثمر غريباً والرحلة التي قطعها الغريب أكثر غرابة. وكدتُ أسمّيها “شجرة اليأس” لولا محبتي التي لا يساورها الشك لشجرة الأمل وإن بدت  الأخيرة صغيرةً جداً وشاحبةً جداً ومتعبةً جداً لشدة العاصفة التي تحيط بها وبي.

 الرحلة لا تنتهي، لأنّ الحرف لا ينتهي وتأويله شعراً لن ينتهي، وفي هذا بعض العزاء لي بأن سكني في لحاء الحرف قد أنار لي بئر روحي. لقد عالجتُ كوارث الدنيا وظلامها الكثيف بالحرف وداويتها به. وكان العلاج شافياً للوهلة الأولى لكن الظلام كان مزمناً، فصار عليّ- أنا المنسيّ المنفيّ في جسده قبل وطنه وفي وطنه قبل جسده- أن أعيد العلاج المرّة تلو الأخرى. ولذا أبدلتُ الحرف من (الجيم) إلى (النون) إلى (أخبار المعنى) إلى (النقطة) إلى (الحاء) إلى (ما بعد الحرف.. ما بعد النقطة) وإلى (شجرة الحروف) وإلى (أربعون قصيدة عن الحرف) وهي آخر ما كتبتُ كصهيل حروفي يكشف وجع الحرف ووجعي، وحنينه وحنيني ودمعه ودمعي في رحلة تراجيدية للبحث عن الشمس والطمأنينة والفرح والأمل. رحلة كُتِبتْ بشكل قدري فكان الفكاك منها حلماً مقدّساً يحاول الشعر والحرف على انجازه. لكن الحقيقة المرعبة تقول إن مَن ينجز هذا الحلم المقدس هو الموت ولا شيء سواه. واأسفاه!

وفي هذه المجموعة بدا الحرف في عنوانه الأكثر حضوراً أناي الحقيقية ومحاوري المستتر أو الظاهر وصديقي الذي يتخفّى في ثيابي ورفيقي الذي كان يصرخ معي ونحن نبحث عن سفينة نوح في طرقات العالم وموانئه البعيدة. نعم،  كان الحرف شريكي في قصيدتي التي عبرتُ فيها السنين والبلدان والقارات، وهو درعي: أنا الأعزل الأبديّ الذي كُتِبَ عليه فرمان الحرمان ومُنِحَ كأس أيوب سراً وعلناً وسُرِقَ شبابه وحلمه وَصَبَواته في الحرب ثم في الحصار ثم في المنفى أخيراً.

 

ـ غربتك متعددة: غربة البعد، الضياع، غربة الذات والوجود..إنها غربة مركبة جعلت القصيدة مأوى رمزياً. أسألك هنا بأي معنى؟

* إنه الاحتجاج على ما حصل وما سيحصل. ليست هناك غربة سعيدة أبداً. وستكون وظيفة الشاعر المرغم على اختيارها هي الاحتجاج. وكل شاعر مغترب سيتخذ طريقته الخاصة في فضح تفاصيل الغربة قُدماً. أنا اتخذتُ الحرف دليلاً ومعيناً، فكان أناي التي لا تكفّ عن السؤال وذاتي التي لا تتوقف عن التأمل وروحي التي لا تسأم من الحلم ليلاً ونهاراً.

 

ـ شاعر انفرد بنغمة خاصة عن الجيل السبعيني في العراق، بل انفرد عربياً. أين تجد نفسك في المشهد الشعري العربي؟

 * لا يهمني كثيراً موقعي في هذا المشهد بل إن ما يهمني حقاً  هو أنني أستطيع التعبير عن محنتي الخاصة كإنسان يعيش في هذا العصر العجيب  الغريب، يعيش بطريقته  الصوفية الزاهدة في مجتمع عبادة اللذة والدولار والدينار، ويتنفس عبر قصيدته ذات البصمة الفنية الخاصة وبقاموسه الشعري الخاص. وأستطيع القول، ولله الحمد، إنني حققت هذه البصمة الفنية الخاصة عبر الحروفية. وقد أكد ذلك عشرات النقاد، أقول هذا بتواضع وأشكر من الأعماق أولئك النقاد الذي تفحصوا  تجربتي الشعرية وكتبوا عنها ولم يكن هدفهم الا النقد الخالص فليس هناك من مؤسسة أياً كان شكلها تدعمني وليس هناك من أدلجة تقدّمني وتطبّل لي، وأنت تعرف أن شعرنا العربي قد أُبتُلي بالمؤسسات والأحزاب والأدلجة والتطبيل الفارغ لكل ما هو مؤسساتي، مؤدلج وغير شعري!

 

ـ تعيشون في المهجر الذي قد يعمق سؤال الوطن، وقد يغني أيضا الملمح الرؤيوي أي الإطلالة من ذاك البعد العصي. ما هي مساحة المهجر في الذات والكتابة الشعرية؟

* الوطن والمهجر يندمجان في كينونة واحدة هي كينونة الإنسان المتأمل، والشاعر الباحث عبثاً عمّا يخفف عليه من غلواء الحياة الموحشة ووطأة صروف زمانها. أنت لا تستطيع أن تقسم نفسك إلى قسمين: قسم للوطن وقسم للمهجر، ولا يمكنك أن تنسى الوطن وأنت تتحدث عن المهجر. هي قصيدة واحدة أو قصة واحدة وهو صليب واحد ستحمله أنّى رحلت وارتحلت في فضاء الله.

 

ـ كأسك الشعرية ترشح بمرجعيات عدة (شعرية، صوفية، تراثية، فلسفية..). إلى أي حد ساهمت هذه المرجعيات في تشكيل رؤيتك؟

* لقد أغنتها وأثرتها دون شك. نعم هذه المرجعيات العديدة أغنت كأسي الشعرية وصار طعمها مختلفاً عن السائد من الشعري. وهذه المرجعيات أعانت بالطبع حروفيتي على التجديد والابتعاد عن التكرار والاسفاف.

 لابد لكل شاعر يريد أن يحقق بصمته الشعرية الخاصة أن يغني شعره بمرجعيات روحية وفلسفية وتراثية وصوفية وفولكلورية وسواها حتى يغني من ثمار قصيدته ويقضي على ضحالتها على أن يكون هذا الإغناء بعيداً عن الإقحام الفج بل ينبغي أن يتم بتلقائية عالية ونعومة حاضرة وشفافية أكيدة، وأن يتم ذلك من خلال التجربة الشخصية ومصهر معاناتها وسؤالها الروحي الوجودي العميق.

لابد له كذلك أن يتلاقح  ليس مع النتاج الشعري العربي قديماً وحديثاً بل مع النتاج الشعري العالمي عبر تجاربه الكبرى والصغرى وأن يتعرّف ما استطاع إلى ذلك سبيلاً إلى نتاج شعراء كوكبنا من اليابانيين والصينيين والكوريين والآسيويين إضافة إلى الأوربيين والأفارقة وشعراء أمريكا الشمالية والجنوبية.

 

 

ـ تطل على القراء عبر نوافذ ورقية وإلكترونية. إلى أي حد تساهم هذه الوسائط في إيصال الشعر. أعني مكانة هذا الأخير في صحافتنا العربية؟

*  حقق الأنترنيت ثورة اتصال عظيمة حقاً كانت البشرية بحاجة ماسة لها. وما مِن شك فإن الشعوب العربية في مقدمة مَن يحتاج إلى هذا الاتصال بعد أن أشبعت الأنظمة العربية الغبية نفسها وشعوبها بالحدود والممنوعات وتعقيد الحياة إلى درجة جحيمية تقودها فكرة شيطانية للحفاظ على كراسيها المنهارة والمبنية على صدور أبنائها الفقراء والمغلوبين على أمرهم.

 إن ثورة الإنترنيت في البلدان العربية- رغم النسبة الضعيفة في استخدامه إذا ما قورنت ببلدان العالم الأخرى وبخاصة بلدان العالم المتقدم- خفّفت إلى حد ما من هذا الغياب المُهلك للحرية والحضور العنيف لآلة القمع، كما كسّرتْ، إلى حد ما، من الحدود العربية المخيفة أمام حركة الاتصال وتلاقح الأفكار وكذلك حركة الكتاب العربي بعامة والمجاميع الشعرية بخاصة وستعمق هذه الثورة منجزها أكثر فأكثر بمرور الزمن. الآن يمكن قراءة الكتب على أنواعها على الإنترنيت مفتوحة اليدين والقلب! فشكراً للإنترنيت الذي حقق حلماً إنسانياً قديماً وعظيماً، وعسى أن تنجح هذه الثورة الكبرى في تحقيق انتشار الكتاب العربي بعامة، والمجاميع الشعرية بخاصة، وإيصاله إلى القراء والحد من نسبة القراءة المتدنية لدى الشعوب العربية على نحو يثير الرثاء والبكاء والخجل! هذا يعني أن الإنترنيت سيساعد في إيصال الشعر وتوسيع دائرة متلقّيه، وسيكسر، بل كسر فعلاً شبح الألف نسخة التي يطبعها الشاعر على نفقته الخاصة ويوزعها على معارفه! الممتع والجميل في المسألة أن الكتب الإلكترونية مجانية وهي تقفز فوق الحدود المانعة وسياط القمع والمنع والردع ليتجاوز رقمها الألف بعشرات وربما مئات المرات.

 

ـ هناك قراءات في أعمالك الشعرية، أضاءت جوانب عدة من تجربتك الشعرية. هل أنصفك النقد؟ وكيف تنظر لوضعية هذا الأخير على الساحة الثقافية العربية، إن كانت هناك ساحة؟

* نعم أنصفني النقد وأضاء فضاءات قصيدتي رغم أنني شاعر غير مؤسساتي ولا بمؤدلج ولا أُشرف على صحيفة ثقافية أو منبر إعلامي. فشكراً من الأعماق لأولئك الذين أعانوني بنقدهم البناء على مواصلة الكتابة الشعرية والتعبّد في محراب الحرف وكتاب النقطة. شكراً لهم وبخاصة لأولئك الذين كتبوا عنّي يوم لم تكن الكتابة النقدية مطلوبة في الا عن الرؤوس المدببة والقامات المتنفذة في قيادات الصحافة العراقية فقط. ولقد كان لكتاب (الحروفي) الذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت وأعده وقدم له الناقد د. مقداد رحيم مأثرة التعريف المميز حيث احتوى على دراسات ومقالات ل 33 ناقداً عراقياً وعربياً كتبوا كل حسب مقدرته النقدية وأسلوبه البحثي عن تجربتي الشعرية الحروفية.

 والآن في زمن الإنترنيت حيث سقطت الحواجز الكاذبة والحدود  الغبية والقبيحة وحيث أصبح كل شيء مباحاً ومُعلناً فقد امتدّ صوتي الشعري إلى الأحبة المبدعين في كل مكان عربي بل في كل مكان في أرض الله،  فصار الصوت مسموعاً بوضوح ليكتب عني نقاد تونس واليمن والمغرب وفلسطين وسوريا ومصر والسعودية والجزائر وإيران وأستراليا إضافة إلى نقاد محافظات العراق. فلله الحمد من قبل ومن بعد!

 

*********************

عبد الغني فوزي- شاعر وكاتب مغربي

نُشر في  صحيفة العرب اللندنية بتاريخ 7 - 1- 2010

الصفحة الرئيسية