ما الذي قطفه الأدباء العراقيون

من شجرة المنفى؟

 أحمد عبد السادة

 

 

 

 

من الطبيعي القول ان للمكان سلطة قوية في ذاكرة الأديب خاصة إذا كان هذا المكان مقترنا بذاكرة الطفولة والاكتشافات الطرية الأولى، لذلك فمن الطبيعي أيضا القول ان هناك تغييرات حتمية ستحدث في التضاريس الإبداعية للأديب عندما يهجر مكانه الأول ليعيش تحت سماء المنفى.

ما الذي أضافته تجربة المنفى إلى الأديب العراقي، وما الذي أخذته منه؟.. سؤال وجهناه إلى عدد من الأدباء العراقيين المقيمين في المنافي من اجل اكتشاف خرائط أجوبتهم.

 

 قسوة خلاقة!

الشاعر أديب كمال الدين المقيم في أستراليا أجابنا بما يلي: لعل أقسى ما في المنفى أنه لا يتيح لك فرصة التعرف على تفاصيل الحياة بل يجبرك على هذا التعرف بشكل يومي، هكذا ستجد نفسك في فحص مستمر لمنظومتك الثقافية، بالمعنى الشامل للمنظومة الثقافية، بدءاً من خطوطها العامة ووصولاً إلى أصغر تفاصيلها، إنه ليس بالفحص الاعتيادي أو الروتيني بل الفحص الجاد والعميق والمقارن مع منظومة الآخر: منظومة المنفى الثقافية.

 ستجد نفسك في سؤال مستمر وتدقيق حيّ ونقاش لا يتوقف مع النفس! هذه هي قسوة المنفى! قد تكون قسوة خلاقة تدفعك إلى المزيد من العطاء المتماسك والمتجدد والنابض بالحياة، لكنها ستكون على حساب طمأنينتك أو ما تبقى من طمأنينتك الهشة أصلاً!

وعبر هذا التمحيص القاسي كشفَ لي المنفى عن قاع الحياة الأسود ومنحني فرصة مشاهدة هذا القاع دون تزويق أو رتوش أو أوهام.. نعم، فالوصول إلى قاع الحياة الأسود ليس صعباً البتة، مادامت الحرية متوفرة ووسائل الوصول المعرفية متاحة تماماً (تماماً مثلما هي الملذات الجسدية متاحة: المخدرات، الكحول، القمار..إلخ)، وكل شيء مُعَلَن ربما إلى درجة لا تُطاق! هنا وضمن مفهوم الغرب للحياة، فإنّ كل شيء يظهر دون غطاء: بدءاً من جسد المرأة إلى جسد المجتمع إلى جسد الاقتصاد إلى جسد المستقبل.

إذن، فستكون الكتابة هنا – أياً كان نوعها- في الصميم من جسد الحياة لا في الصميم من جسد الوهم كما يصر الشرق على ذلك!

على صعيد المنجز الشخصي، فقد أنجزت في أستراليا كتابة ونشر أربع مجاميع شعرية، ثلاث منها بالعربية وواحدة بالإنكليزية، فيما صدر كتاب (الحروفي) بإعداد وتقديم الناقد د. مقداد رحيم ليوثّق لتجربتي الشعرية.

إذن ربما يكون في ما أنجزته شعرياً بعض العزاء الشخصي. لكن الحياة تبقى في المنفى ذات طمأنينة هشة حقاً وصدقاً ما دامت كلّ نفس ذائقة الموت، ومادامت الحرية سلاحاً يمكن أن يمنحك الحياة أو يسلبها منك، ومادام فحص منظومتك الثقافية لا يكفّ عن التوقف!

 مختبر ومتاهة

أما الشاعر سعد جاسم المقيم في مصر، فقد أدلى بجواب مفاده: المنفى بالنسبة لي مختبر ومتاهة في الوقت نفسه، ويسير هكذا: (مختبر/ منفى، مختبر/ متاهة)، فأنت إذا لم تواجه منفاك وتحاور الآخر الذي يشاركك العيش فيه ستلفــّك دوامات الحيرة والذهول والارتباك، وقد ينتهي مصيرك إلى متاهة قد تخرّبُ روحك وتربك وجودك، ولكنني اعتقد أن الشاعر والمثقف الحقيقي قادر على أن يحوّل منفاه إلى مختبر ويتماهى مع مجتمعه الجديد بطريقة انتقائية او بالارتماء بقوة في قلب ومفاصل هذا العالم الشائك والغرائبي؛ ليحقق وجوده ويحاول أن ينهل من ثقافة الآخر ويتمثلها ثم يطرح أسئلته الكونية غير معني بالجاهز والسائد من الأجوبة، وأنا لا أثق بالمثقف الهامشي بالرغم من حبي له واعترافي به، حيث ينبغي على المثقف أن يكون عضوياً ليؤكد حضوره في كل الوجود، و(في الشاعر تتخفى ينابيع الفعل ) كما قال هنري ميلر، والشاعر الحقيقي صاحب مشروع مستقبلي، وهو مبتكر وخلاق دائما، انه طائر الفينيق الذي ينهض دائما من رماد الخسارات والانكسارات، وأنا أرى نفسي مثل ناقوس يطرق عالياً عالياً، ولا يخفت رنينه أبدا، دائما تشغلني الحقيقة لا الوهم، والشعر في حقيقته قلق واختلاف، وقد جبلت أنا على هذا القلق والاختلاف الذي يدفعني دائماً إلى أن أكون مغايرا ومشغولا بالغور في مجاهيل الخفي والغامض والمسكوت عنه؛ وقد كتبت الكثير من المقاطع والنصوص عن منفاي الذي كنت سعيداً ومتوهجاً وفاعلا فيه بالرغم من قسوة وعناءات ما عشته ، واذكر منها:

(قبلَكِ كنتُ صديقاً لليلِ

والنجومُ تقاسمني يواقيت عزلتي

وتتعطّرُ بقرنفلاتيِ أسايَ

وتقرأ معي قصائدَ لوركا صديقي القتيل القديم

وتغني معي أغنيات الوحشةِ والمنفى الخادع)

وكذلك: (حبُّك مشكاتي وأغنيتي الني أبددُ فيها ضجري

في منفايَ الفادح)

 أفكر بلغتين

في حين كان جواب الشاعر باسم فرات المقيم في جمهورية لاوس الديمقراطية الشعبية كالآتي: إضافات المنفى لتجربتي واضحة لأنها تحتلّ مساحة جيدة من كتاباتي، إن كانت الشعرية أو النثرية، فطالما رددتُ أن الاحتكاك بثقافات مختلفة يوسع المُخيّلة، والمنفى - والأصح المنافي لأنني عشتُ في بلدان متعددة وعايشت شعوباً شتى - نبهني إلى مسائل لم أكن ألتفت إليها سابقاً، على سبيل المثال: إن المُدنَ العراقية متعددة الثقافات (لغوية أو دينية) لها دورها الواضح في المشهد الثقافي العراقي على مرّ الزمن، فبغداد والبصرة والموصل بتنوعها اللغوي والديني منحت العراق مقطعاً عريضاً يكاد يتسيد المشهد الثقافي، والثقافي هنا بمعناه الواسع الذي يشمل ما هو أكثر من الأدب والفنون، بل إن كركوك لم تقدم منجزها الإبداعي الكبير، ولنحو ألف عام، كمدينة تركمانية تكاد تكون مغلقة، منذ جيش المعتصم الذي ملأها وحتى تنامي صناعة النفط التي أجبرت الانكليز - وهم الذين لديهم موقفٌ مناوئ من التركمان - على الاستعانة ببقية الطيف العراقي لشغل فرص العمل، ما أنتج بعد ثلث قرنٍ فقط، واحدة من أهم الجماعات الأدبية، وخصوصاً الشعرية، في اللغة العربية، إن جاز لنا اعتبار سركون بولص ومؤيد الراوي وفاضل العزاوي وجان دمو وأنور الغساني وصلاح فائق، جماعة.

المنفى جعلني أقبض على الجوهر الإنساني للشعر، إذ تعلمت من عدم استقراري، كيف أحَوّلُ المنفى إلى منتج إبداعي، والعزلة إلى نمط حياة للتأمل وإعادة التفكير فيما كتبته وقرأته وآمنت به، ولم يعد العراق فردوساً مفقوداً، بل وطناً بعيداً، لا تكمن مشكلته في طاغية وحروب وعنف وعنف المضاد، بل المشكلة في الأنساق المعرفية والمنظومة الثقافية المبنية على الإلغاء والإقصاء للآخر، وفي عقل سياسي عابر للهوية الوطنية.

أما ما أخذته تجربة المنفى مني، هو التواصل اليومي مع اللغة العربية، حيث ندرة تواجد الناطقين بالعربية في هيروشيما، والآن منذ عام ونصف في جمهورية لاوس، افتقد حميمية العلاقات العراقية خصوصاً والعربية عموماً، دفء العائلة، الأمور التي تعودت عليها في طفولتي وسواها من الأمور، وهي كثيرة لمنفي يعيش العزلة منذ سنوات طويلة، حتى صار يفكر ويحلم بلغتين، أي أن غالبية الجمل التي أُفكّر بها هي مناصفة بين لغتين.

 مفتاح لاحتمالين متناقضين

كما أدلت القاصة والروائية ابتسام يوسف الطاهر المقيمة في بريطانيا بالجواب الآتي: المنفى إذا فرض على الإنسان وعلى المبدع بشكل خاص، سيكون ذلك مثل نقل شتلة إلى أرض أخرى وأجواء لا تلائمها، لكن قدرة الإنسان على التواصل مع الحياة والإصرار على العطاء تجعله يلوي عنق الزمن والأيام ليجعلهما طوع إرادته وإلا سيضيع وتجرفه رياح الغربة حيث لا يشتهي.

إذن الإنسان حسب وعيه وثقافته بإمكانه أن يجعل من المنفى مدرسة وعالماً يتعلم منه، ويضيف له خبرات ومعرفة علمية واجتماعية، وهو بالمقابل قد يضيف من خبرته ومخزونه الفكري والتراثي للمجتمع الذي يعيشه إذا كان ايجابيا مع نفسه ومع المحيط، لان البعض تقوقع وجعل نفسه مثل فراشة في شرنقة، أحاط نفسه بخيوط الحرير التراثية والذكريات الماضوية ولم يتفاعل لا مع جاليته ولا مع المجتمع المحيط به بشكل عام، لكن البعض الآخر جعل من وجوده، خاصة في الغرب, فرصة للعلم والعمل، فكل مجتمع له تقاليده وسلوكه وعلومه الاجتماعية التي من خلالها نختار ما يضيف لنا وما يثقف النفس ويشذبها.

بالنسبة لي، فالمنفى اخذ مني أجمل سنوات العمر، فحين تكون بعيدا عن اهلك ومرابع طفولتك مهما كانت بائسة، ومهما كان المنفى جميلا، تشعر أن الزمن توقف، وان تلك السنين ليست سوى صخرة على رصيف الانتظار.

مع هذا المنفى أو الغربة كانت ذات شقين، الأول في احد البلدان العربية، إذ كنت اشعر بأنني سجينة بلا سجان، أدور حول ذاتي بين أربع جدران، لا طموح ولا عمل غير بعض الساعات التي اسرقها من بين أنياب الكآبة والإحباط لأكتب بعض القصص والخواطر، وقد تعلمت من تلك التجربة أن لا أثق بأي كان!، وان لا احكم على شعب ما بجريرة بعض الأفراد. أما الشق الثاني، فقد كان في الغرب، إذ عرفت أن الحرية هي أجمل واثمن ما يملكه الإنسان، وانها قد تكون مفتاحا لمزيد من الإبداع ولمزيد من العطاء والثقة بالنفس، أو أن تكون كارثة لمن لا يعرف معنى الحرية، ويعتقد أنها وسيلة للعبث والضياع، وعرفت كم عانوا ليصلوا إلى أجمل مراحل احترام الإنسان ليبنوا مجتمعا حضاريا كريما.

    نُشر في مجلة المشهد- العدد 25- بتاريخ 1 - 4- 2010

 

الصفحة الرئيسية