الشاعر أديب كمال الدين لصحيفة الحقائق اللندنية


 حبّ الحرف هو المعنى الوحيد للحبّ والشّعر والحياة
أنا المنسيّ المنفيّ في جسده قبل وطنه وفي وطنه قبل جسده

 

 

 


حاورته عبر الانترنت من واشنطن: سهيلة بورزق

 

 

من أين أبدأ الحديث عنه وكلّه حكايا وقصائد، أأبدأ من " تفاصيل" أول دواوينه (1976) أم من "ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة " ثامن مجموعة شعرية له (2006) والتي أبهرت النّقاد العرب بسلطتها الحروفية الغارقة في دلالات الصوفية والباحثة في شفرات المعنى والتركيب اللغوي؟

هو هذه التشكيلة الفلسفية من قامة الشعر، هو هذه الدهشة الدلالية في تجربة الكشف عن خصوصية الاختلاف الجمالي في مجمل دواوينه العابرة للحدود والمترجمة للانجليزية والفرنسية والألمانية والرومانية والايطالية والاسبانية والكردية... هل تكفي جملي المتواضعة لتمنح هذا الإنسان الذي يتنفس شعرا القليل من حقه؟

يقول عنه الشاعر "عدنان الصائغ" في صحيفة "آخر خبر الأردنية" (1994) "مثلما يحاول الحداد أن يضع الحديد الساخن فوق السندانة، ويبدأ الطرق عليه ليصنع منه الأشكال التي يبغيها، يحاول الشاعر أديب كمال الدين أن يضع الحرف فوق سندانة المعنى ويبدأ عملية الطرق بتناغم متصاعد حتى يحصل على شكل القصيدة التي تشكل بالتالي عالمه الخاص "

ويقول عنه الكاتب الدكتور  مصطفى الكيلاني" في صحيفة "الزمان" (2007) "أثبت أديب كمال الدين بمجمل دواوينه ووصولا إلى "ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة" أن الحروفية العربية في الشعر إمكان للتحقق أيضاً، رغم الاختلاف الخصوصي القائم بين علامية الرسم وعلامية الكتابة الشعرية في مستوى جمالية التمثل والأداء " .

 

*هل تصالحتَ مع الغربة أخيراً؟

 


- لا أعتقد أن شيئا كهذا يمكن تحقيقه وبالسهولة التي، ربما، يلمّح إليها سؤالك، وبخاصة مع مسألة الغربة لأنها، ببساطة شديدة، مسألة معقدة جداً. فأنا أعاني من أنواع عديدة من الغربة، وليست الغربة المكانية بأولها على أية حال.
وهكذا وبسبب من تعقيد المسألة وتجذّرها في الأعماق، فإنني "وضعت" الغربة في "كيس" خاص في جسدي. هل سمعتِ بحالة يعاني فيها الإنسان من إصابته بإطلاقة نارية لتستقر الرصاصة في جسده، ولأسباب كثيرة، في مقدمتها رغبة الجسد في البقاء على قيد الحياة، فإنه يقوم ب"تكييس" أو "تلييف" الإطلاقة فيحدّ من خطرها المميت ويحدّ إلى حدّ ما من آلامها الوحشية؟

لقد استقرت الغربة:الرصاصة في أعماقي داخل كيس خاص. ما اسم هذا الكيس الذي أحاط بالغربة- الرصاصة وروّضها إلى حدّ ما؟ أهو الشعر؟ أهو الحرف والنقطة؟ أهو الحرفنقطة؟ المهم أن الغربة بمخاطرها وآلامها تحت السيطرة حتى الآن، ولكن ليس لدرجة التصالح على الإطلاق!

لقد تحدثت عن الغربة المكانية، آخر أنواع الغربة التي تعرّفت إليها، لكن الغربة الإنسانية أكبر من ذلك دون شك. وهكذا تبدأ غربتي، كإنسان وكشاعر، بتعبير حروفي،  من غين الغربة ولا تنتهي بتائها المربوطة!.. لقد كنتُ مغترباً وأنا أعيش وسط الوطن، ووسط المجتمع العام والخاص، ووسط النخبة الثقافية التي ما أن حاولت الاندماج معها حتى اكتشفت مبكراً  صعوبة وربما استحالة ذلك لأنها تتخذ من الايديولوجيا تحديداً لماهية الأنسان. كان هذا في السبعينيات، ثم في الثمانينيات والتسعينيات حيث كانت النخبة تتماهى، بشكل أو بآخر، مع مؤشرات خطاب "القائد الضرورة". أي في الحرب وفي رعبها، وفي الحصار وفي ناره، اتسعت غربتي واشتدّت فلا أنا ممن كتب ولا أنا ممن مجّد فأراح واستراح بل كنت من الذين قاوموا بالكلمة عملية دهس الكلمة التي مارستها المؤسسات الثقافية. كنتُ من القلة القليلة التي ارتضت بهذا الصراع السريّ الخفيّ الخطر: أن تبقى في الداخل ولا تتماهى مع شروط إعلام و"إبداع " الداخل بل تؤسس بأظافرها المدماة لكلمة الحق. هكذا كتبتُ مجاميعي "جيم" و"أخبار المعنى" و"النقطة" و"حاء". وهكذا واجهت المدّ الاعلامي الجنوني فاتخذت من قناع الحرف أولاً ومن قناع النقطة ثانياً وسيلةً للكشف عما يحدث من تزييف لحقيقة الشعر وجماله ومعناه.
كانت الغربة بمرور السنين تشتدّ والثمن الذي أدفعه لكي أبقى حياً وسط حروب مدمرة وحصارات وحشية وتهميش إعلامي وثقافي غالياً. بعبارة أخرى، كانت الغربة داخل الوطن عذاباً حقيقاً لم يعرفه الاّ القلّة من الذين اختاروا معي صفاء الكلمة وشظف العيش وارتياب الآخر وتشكيكه وتهميشه بدلاً من مسخ الموقف والاندماج  بالمؤسسة.
وما أن وصلتُ إلى أستراليا حتى بدأت غربة أخرى تطلّ برأسها:إنها غربة اللغة. ولحسن الحظ فإنني قد أعددت نفسي لها إعداداً جيداً حيث درست الأدب الانكليزي بكلية اللغات بجامعة بغداد في التسعينات. لكن الغربة كما اكتشفتُ ليست لغوية بل أوسع من ذلك،إنها حضارية، وهي غربة تقوم، في الغالب، على اصطدام الحضارات والثقافات. وأنا القادم من الشرق الفقير المحبَط هو مَن سيكون نقطة اصطدام الشرق بالغرب!
بالطبع هناك، قبل هذا كلّه، غربة الإنسان في هذا الكون. انها الغربة الأقسى. هي غربته  وهو يحاول عبثاً فكّ طلاسم الموت: الوجه الآخر للحياة. هي غربة تطلق شرار الشعر فيَّ أبداً، وتدلّني، منذ كتابتي لقصيدتي الأولى وحتى الأخيرة، على انحسار الأمل لا انحسار السؤال. هذه الغربة هي ردبف عظيم للسؤال الشعري، رديف يتبعني كظلي

 

*عندما نتحدث عن الخطاب الشعري المستوحى من سلطة الحرف، ما دلالاته في الأنساق الشعرية لديك؟


- كان الحرف ولم يزل سبباً في "خصوصيتي" الأسلوبية الشعرية.لكن الوصول اليه لم يكن سهلاً البتة. لكنني عشقته فسهّل العشق عليّ الوصول ثم القبول ثم المثول في حضرته حتى الهيام والتماهي. وربما، وبخاصة، وقت الحريق الشعري أعني وقت كتابة القصيدة، يصل الأمر إلى درجة نسيان السبب والمسبب في رحلة الحياة. ثم تعرّفت إلى أسراره فكانت (النون) بهجة المحبّ وحليب العصفور وهلال العيد والحلم والنوم والجمال المهلك والهالك والحرمان والارتباك والدوران والقمع والاحاطة والسيطرة، كانت النون رمزاً لمحبة كلّ شيء قريب وفي متناول البد كما القمر في متناول المجنون وهو يرى صورته منعكسة فوق سطح الماء! وقبله كانت (الجيم) إشارة الجنون والجثة والجحيم والجند والحرب والدم. لكن (النقطة) كانت هي الكينونة دون شك. ففيها السرّ الأعظم وفيها الطلسم الذي لا يفكّ رموزه أحد وإن ادعاه الجميع لقداسته وعمقه ولطفه الذي لا يعرفه سوى الخواص وخواص الخواص..ستكون (الحاء) حاء الحبّ والحرية والحنان دون شك، لكنها حاء الحرب والحريق والحقد، قبل ذلك وبعده، وهي حاء الحلم الجبار الذي يكاد أن يختصر الشعر كله ومعناه كله وغموضه الذي لا حدود له. وقد انتهيت أخيراً من (شجرة الحروف) فكان الثمر غريباً والرحلة التي قطعها الغريب أكثر غرابة. وكدتُ أسمّيها شجرة اليأس لولا إخلاصي الذي لا حدود له للحرف، ولولا محبتي التي لا يساورها الشك لشجرة الأمل وإن بدت صغيرة جداً وشاحبة جداً ومتعبة جداً لشدة العاصفة التي تحيط بها وبي. وكان عليّ أن أوثّق لما جرى لي بلغة الاعتراف الجميل الذي سيراه بعضهم لذيذاً والآخر مليئاً بالغموض والثالث عذباً والرابع...أو بلغة الفاصلة الجسدية والزمكانية التي تغني القصيدة وتزيد، ربما، من سعة آفاقها لتحتوي الحياة كلها في لحظة نادرة.الرحلة لا تنتهي بالموت ذلك عجب الدنيا العجاب، لأنّ الحرف لا ينتهي وتأويله شعراً لن ينتهي، وفي هذا بعض العزاء لي بأن سكني في لحاء الحرف قد أنار لي ظلمةَ وداعي وأعانني على الوصول إلى شيء ما وإن كان سرّ هذا الشيء مجهولاً للطفه العميق.
لقد عالجت كوارث الدنيا وظلامها الكثيف بالحرف وداويتها به. وكان العلاج شافياً للوهلة الأولى لكن الظلام كان مزمناً فصار عليّ - أنا المنسيّ المنفيّ في جسده قبل وطنه وفي وطنه قبل جسده- أن أعيد العلاج المرّة تلو الأخرى. ولذا أبدلتُ الحرف من) (الجيم) إلى (النون (إلى (الحاء) إلى (النقطة) إلى (ما بعد الحرف وما بعد النقطة)، ثم حاورت النقطة والحرف وجعلتهما يتحاوران في كلّ شيء ويتناغيان ويتساءلان ويكتشفان بعضهما بعضاً وينصهران إلى حد التلاشي والذوبان. ثم جعلتُ النقطة تعترف وترقص وتبكي وتغني وتعشق وتهيم وتجنّ وتشطح وتشرق أبداً في البر والبحر والنهر.
وما أعانني في ذلك أنني لم أكن مفتعَلاً ولامفتعِلاً. فكان حرفي صادقاً ولسانه رطب أبداً بالدعاء والغناء والهذيان، وكانت النقطة طيبة كدمعة طفل يتيم. ولذا لا عجب أن رأيتِ البحرَ والطفل والساحر يهبطبون من الحرف ليأخذوا بيدي أنا المتأمل المهووس بالجسد والنار والموت لأسير خطواتي المرتبكة وسط القساة والأجلاف والقتلة، ولأتجنب، ولو لبعض الوقت، ذكرَ حيرتي الكبرى وضياعي المكتوب.

 

*وعلى مستوى التفاصيل الفنية... كيف حدث ذلك؟


 -  طوال رحلتي الشعرية المعمّدة بالألم والنار البروميثوسية، اعتمدتُ الحرفَ وسيلةً شعريةً وملاذاً ابداعياً. أردتُ استكناه سر الحرف: اطلاق مسراته العميقة أو حرمانه العظيم في لعبة المأساة التي تحرقنا ونلتذ بحريقها وتحمل اسم القصيدة. إن هذا الاستكناه، كما أعتقد، خطير في كشف دوخلي ومزج أزمنتي لخلق أساطيري الخاصة على نحوٍ خلاّق، كذلك في اطلاق متعة الشعر ومنحه فرصة أن يكون حياً وأن يبقى حياً زمناً طويلاً. لقد تحقق للعربي معجزته الروحية الكبرى إعتمادا ًعلى اللغة وتأسيسها عليها (القرآن الكريم) مثلما كان يحقق حركة ساعات يومه الاجتماعية والفكرية والفلسفية والإبداعية إعتماداً على اللغة والتي بثها شعراً متفوقاً قبل شروق شمس الإسلام العظيمة على جزيرته. وما دامت اللغة بالنسبة للعربي بهذه الأهمية فإن اختيارها ملاذاً شعرياً، ومن ثم، التزامها بهيئة مبدعة، يجعلنا نمسك بالوترالنابض في الآلة المدهشة.
 
لكني في رحلتي لم أبقَ مقيماً في شاطئ الكلمة ضمن منطق شعري معروف ومتعارف عليه، بل انطلقتُ إلى محيط الحرف الغامض السريّ العجيب. وفي هذا  المحيط حفرتُ منجمي ومسرحتُ عويلي ومارستُ احتجاجي وأطلقتُ صيحاتي وخلقتُ مسراتي وكتبتُ شاهديتي، وكل ذلك طلبته وأطلبه من خلال مستويات عديدة  ينتمي إليها الحرف، كما أرى، والمستويات هي: الدلالي، الترميزي، التشكيلي، التراثي، الأسطوري، الروحي، الخارقي، السحري، الطلسمي، القناعي، الايقاعي، الطفولي.
هكذا وعبر كتابة المئات من القصائد الحروفية التي اتخذت الحرف قناعاً وكاشفاً للقناع، وأداةً  وكاشفةً للأداة، ولغةً خاصةً ذات رموز ودلالات وإشارات تبزغ بنفسها وتبزغ باللغة ذاتها لإزالة عتمة هذه اللغة وعجزها وقصورها وتعسفها وارتباكها، عبر هذا كله أخلصتُ للحرف عبر عقود من السنين حتي أصبح قَدَري الذي لازمني  وسيلازمني للنهاية. لقد أخلصتُ له حتى أكرمني وأدخلني في قاعة عرشه وقبّلني ما بين عينيّ وأجلسني إلى جانبه وخلع عليّ رداء حكمته وأفصح لي عن أسراره وخَطَرات قلبه بلطفٍ نادرٍ وجمالٍ عجيب ومنحني وأنا الفاني الضائع المنفيّ المنسيّ كأسَ البهجة والمسرّة والخلود. وليس الكرم بغريب عن الحرف البتة! فلقد تركتُ من أجله الكثير الكثير، ناسياً كلّ شيء وزاهداً في كلّ شيء، ذلك أن الحرف - كما خبرتُ ذلك ومحّصته – لا يُحبّ أن يُشرك به! هو يحبّ - أن يُحَبَّ لنفسه، لروحه وجسده.. إنّ حبّ الحرف هو المعنى الوحيد للحبّ، فإنْ لم تؤمن بهذا- أيها القارئ- فلا بدّ لكَ أن تؤمن بأنّ حبّ الحرف هوالمعنى الوحيد للحبّ والشعر والحياة!

 

*وبعد؟


-  تحضرني هنا مقولة متميزة للناقد والشاعر الدكتور عبد الإله الصائغ عن خصوصية استخدامي للحرف. أذكرها لعمقها وطرافتها ولطفها. يقول الصائغ: استطاع هذا الشاعر خلق شعريته الخاصة من جهة التعامل الدؤوب مع الحرف والنقطة حتّى أنسن الحرف وأنسن النقطة !فأنت لا تقرأ حرفاً خالصاً كما تراه أنت أو أنا!! وإنما تقرأ الحرف كما يراه الشاعر! وليس ثمة سوى التشفير أحياناً والتماهي مع الحرف أخرى وتمجيز الحرف ثالثة في فضاء لانهائي تتوحّد فيه الأصوات والمرئيات والمشمومات والمجرّات والحبيبات حتّى يعسر وضع حدود بين المحدودات! إذن (الحرفنقطة)  باختصار واتساع شديدين عالم القصيدة والقصيدة أيضاً عالم الحرفنقطة! ذلك ما تؤسسه جلّ قصائد أديب منذ ديوان عربي! يمكن للقصيدة هنا أن تطوِّع  عالم الحرفنقطة فتخلِّق منه كلّ مفردات القصيدة وأعني كل مفردات التجربة الشعرية لدى أديب! كيف؟ نعم كيف؟ الجواب هو مقترن بطقوس الرؤية لدى الرائي! الحرف كلّ شيء  وكلّ شيء الحرف! السماء حرف والأرض كذلك! القتلة حروف والمقتولون حروف! الحبيبة الطاهرة حرف  واللعوب الغادرة كذلك! الثنائيات حروف الليل والنهار، الموت والحياة، الإبداع والاتباع! ليس ثمة مشكلة على مستوى الرؤية! ولكن كلّ المشكلة في مشغل القصيدة! أن تحوِّل المحسوس مجرداً والمجرد محسوساً! أن تؤنسن مفردات الطبيعة أو تعيد مفردات الإنسان إلى الطبيعة!!  أن تتصبب عرقاً وأنت تكابد موسيقا الحروف كي تكون موسيقا القصيدة! أن تدخل بهاء المجذوبية بوعيك وأن تدخل وعيك بمجذوبيتك! أهذه مشكلات اعتيادية في توليف الشعرية الجديدة التي تتنزه عن الانتماءات المغوغأة للمدارس أو المذاهب أو الأجيال أو البيانات! لا شيء يشغل بال القصيدة عند أديب! لا شيء يشغل باله يقيناً! نعم المتلقي (وهو ضالة المنتج بوصف المتلقي هو المستهلك الوحيد) المتلقي  قارئاً سامعاً لا يشغل بال القصيدة عند أديب! تجنيس القصيدة لا يشغل بال القصيدة! ما يشغل بال القصيدة هو الحرفنقطة! لقد ملأت الحروفية حياة الشاعر الشعر وباتت شعريته!

 

- (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) آخر مجموعة شعرية لك، ما ضوضاؤها؟


- هي ضوضاء الحرف وموسيقاه وضوضاء النقطة وموسيقاها.  بعبارة أخرى، هي ضوضاء الغابة الحروفية التي تسكن في أعماق الروح وهي تبحث آناء الليل وأطراف النهارعن الطيور التي حلّقت عالياًَ، وعن الفرات الذي غرق بمائه وسنواته ونسائه، وعن الحبّ وقطراته وعجائبه وجسديته المؤلمة والفاتنة، وعن المسرح وتراجيدية أدواره التي أُعدّت إليّ فكان دوري دور هاملت وماكبث وأوديب والسياب والشريف الرضي والتوحيدي والمعري والحلاج والنفريّ وابن المقفع والمأمون والرضا وأولئك الذين حُملت رؤوسهم فوق الرماح، شهداء المواقف النبيلة، وآخر القائمة العجيبة الغريبة التي كُتب عليّ سراً أن أتماهى معها. وهي أيضاً ضوضاء النقاش بين الحرف والنقطة حول الماضي الذي يرفض أن يموت فكيف لي أن أدفنه، وبين المستقبل الذي يمشي بهدوء غامض  ما بين ساعات الأجلاف، وغربة القدر الذي كتب عليّ  دون رحمة أن أصادق القساة وأجيالهم وأتنفس معهم الهواء والحلم والرغيف

 وهي ضوضاء بغداد مدينة السحر والجمال والدم والدخان من جهة، وضوضاء أديلايد المدينة الأسترالية من جهة أخرى، أديلايد التي تتماهى مع الواقع بدلاً من السحر ومع الأجساد العارية التي لا ترحم بدلاً من الأجساد المتطايرة في الهواء وتتماهى مع الموسيقى التي يعزفها الحواة والهواة والمحترفون والعقلاء والمجانين. وتتماهى، بكلمة مختصرة، مع الزمن الذي يسيل ويسيّله الناس كيف يريدون. وقد وصف الشاعرُ عيسى حسن الياسري قصائد (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة (قائلاً: إنّ الشاعر أديب كمال الدين.. يصل في مجموعته الشعرية هذه إلى مستوى إبداعي يتحوّل فيه الحقل اللغوي إلى حقل شعري بالغ الكثافة.. إنه هنا أشبه بالصياد الذي يلقي شبكته في المياه العميقة.. وما يستخرجه من صيد يرميه في زورقه.. وهو لا يفصل بين مكوّنات صيده ولا يفضّل بعضه على بعض.. فكلّ ما يدخل في بناء قصيدته حتى أكثر أنواع صيده رثاثةً يتحوّل إلى لقى ثمينة وأغان بالغة العذوبة والألم

 
*من بغداد إلى أستراليا، هل قطعت المسافة مشياً على أقدام الحلم والمغامرة أم هروباً من الجلاد؟


 - لم أكن يوماً ما مغامراً أو محبّاً للمغامرة على الأطلاق. تركت بغداد وبابل، أعني العراق كله، لأن حجم الأوكسجين كان لا يكفي ليس لكتابة قصيدة واحدة،  بل للتنفس، لحاجة الرئة فسيولوجياً. وقلت لنفسي إنني ميت ببغداد لا محالة تحت جحيم الديكتاتور وعذابه اليوميّ وتهوّره الذي لا يوصف واستخفافه المطلق بأرواح الناس وجهله السياسي والاقتصادي والحضاري العجيب، قلت إنني ميت لاشك في ذلك فلعلّي الحياة مكتوبة لي في مكان آخر، لعل الذي صوّر السماء فأحسن تصويرها وصوّر الأرض فأبدع أيما إبداع قد كتب لي أرضاً أخرى للحياة. ألم يقل إن أرضي واسعة فلِمَ كلّ هذا الضيق والاستكانة والاستسلام؟!


نعم، الموت هو عنواني المؤكد ببغداد فإن خرجتُ منها فماذا سأخسر؟ بهذه الدرجة من الألم والخسارة والفجيعة غادرت بغداد ولم آخذ منها إلاّ بعضاً من قصائدي ومجاميعي الشعرية وملابسي وفراشي وخرجت متسللاً خائفاً في سيارة أجرة، ليس فقط من المستقبل المجهول الذي ينتظرني - أنا المسافر المنهَك بارتفاع ضغط الدم، ومجموعة الأمراض التي لا ضرورة لتفصيلها، والمنهَك كذلك بالاحباط والمرارة وقلّة الأصدقاء – ولا من المستقبل  المجهول الذي، هو الآخر، ينتظر أطفالي وزوجتي التي  تربكهم وتخيفهم  كلمة )شرطة) وترعبهم  كلمة (معارضة)، بل، أيضاً، من جيراني الفضوليين الذين يعملون، بهمة وسعادة واخلاص، في شرطة النظام السرية!

 لكني كنتُ ولم أزل غنياً إلى درجة الثراء بحبّ الله. وهذا سرّ خروجي من الجحيم وسرّ وصولي إلى الطرف الآخر من الأرض في آخر المطاف، بل هو أيضاً سرّ "تكيّفي" مع الحياة الجديدة التي لا يكفّ أصدقائي المنفيون عن التبرم من مضايقاتها والتهويل من عذاباتها لدرجة إصابتي بالصداع، أصدقائي الذين يبحثون عن السعادة والمتعة والرفاهية في الأرض الجديدة وليس عن الحياة والأوكسجين وعن ورقة صغيرة وقلم صغير لكتابة قصيدة حروفية جديدة!

 

*ما الذي يؤلم الشاعر أديب أكثر في خضم المآسي التاريخية والجغرافية والإنسانية التي تتمزق لأجلها بغداد اليوم؟


- يمر العراق الآن بمرحلة الخروج من القمقم، حيث وجد الكلّ نفسه فجأة في بيئة غير معهودة بعد سقوط (صنم)!! هكذا استيقظت كلّ أنواع الشهوات عند الجميع بعد عهود من تكميم الأفواه، وأولها شهوة الكرسي ثم شهوة السلب والنهب ثم شهوة التخريب وأخيراً الشهوة الأخطر: شهوة الدم. ترى: هل يستطيع العراقيون، بمختلف قومياتهم وأديانهم وطوائفهم، الانتباه إلى أن هذه الفرصة التي بين أيديهم الآن لبناء حياة جديدة ربما لن تتكرر مستقبلاً؟ هل سيسعون إلى الإستفادة منها لتأسيس حياة القانون والحرية والديمقراطية أم أن حديث الشهوات سيستمر ليخرب الحياة والثقافة معا ويقضي على البلاد والعباد؟ ثم أين هم المثقفون العراقيون ليضطلعوا بدورهم الخطير بدلا من ترك كل شيء بيد قادة الأحزاب والميليشيات الذين تهمهم مصالحهم قبل مصلحة المجتمع وتهمهم "ثقافتهم" قبل ثقافة الإبداع الحقيقي؟


 
إن أغلب ما أقرأه لمثقفينا في الصحف والمواقع الألكترونية هو مقالات تشتم وتهجو وتتنابز بالألقاب بدلاً من المساعدة والبحث عن حلول واقعية للتراجيديا العراقية ووضع بصيص من النور في ظلمة الفوضى والدم. إنني أقول: رغم كل ما حدث من مآسٍ في العراق فينبغي التأكيد على خلق ثقافة المحبة والتسامح والحوار مع الآخر ونبذ ثقافة الكراهية والثأر وتكفير الآخر أو تحقيره أو تهميشه أو نبذه.

ليس من خيار غير هذا. والشعوب التي مرّت بما مرّ به العراق من كوارث وحروب لم تجد نفسها من جديد إلاّ عبر ثقافة المحبة والتسامح والحوار مع الآخر. ليس من خيار غير هذا! أكرر قولي للمرّة الألف!

 

%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%%

نُشر الحوار بتاريخ الرابع من نيسان – أبريل 2007 في صحيفة الحقائق اللندنية

الصفحة الرئيسية