في الجحيم وما بعده!

 

 حوار مع الشاعر العراقي المبدع أديب كمال الدين

 

 


حوار: رائدة جرجيس

 

 

 

 

   كيف سأعرّفُ به وهو النقطة والحرف! كيف وهو الذي تعددت معانيه اتساعاً وتلازمت مع إنسانيته الشفافة على وسع  المدارك المعرفية والثقافية!

  إنه  الشاعر أديب كمال الدين المتألق دائماً والمحلّق في سماوات الشعر كموسيقى متناغمة روحاً وقلباً وفلسفةً وإنسانا، وهو الباحث عن السؤال  في كل ّمجالات الحياة وفي كلّ مدياتها.

  يمتاز شعر أديب بالبساطة، والتكثيف، والتكامل باستهداف  المعنى والجمال، وتعدد الألوان كالموسيقى الصوفية  في حضرة الشعر. هذا الشاعر يبثّ شعره بهالةٍ من الوجد البهي في سهل كلماته الممتنعة  في معانيها. ورغم أن  ألوان الغربة التي ذاقها، كغربة الوطن والروح والثقافة والفكر والدين، إلا أن غربة الإنسان عنده ظلت تتبعه كظله. وإن ما تركه الشتات عليه لم يكن  له حضور إلا ما يُثري بوحه الشعري الذي يمسرح أحداثه بفاعلية الشاعر المقتدر. فهو متجدد كالبحر، مليء بالحياة،  متدفق بالأحاسيس  الرقيقة، صاخب، ثائر في وجوده وذاته ودوام بحثه عمّا يدور في فلك الإنسان وخارجه من صراعات الحياة وقفلة الموت وما بعده .

 هذا بعض أديب كمال الدين والذي جعل من الحرف  حسب  ما يقول: "التعويذة الوحيدة التي لا ترتبك وهي تواجه جنون عالمنا المعاصر، بل هي تتماسك. وهي لا تمّحي بل تمحو، حاملة إرث كل ما هو عربي وإسلامي، عميق وعظيم، قديم ومعاصر في الوقت ذاته".

 حاورتُ  الشاعر المبدع أديب كمال الدين وأردتُ لهذا الحوار ألا يكون تقليدياً بالمعنى الصحفي لكي يطلع القارئ على بعض  تفاصيل  حياة هذا الشاعر الإنسان. وكان سؤالي الأول:

 

* عمرك الشعري ما بين تفاصيل 1976 إلى شجرة الحروف 2007 ، ماذا حققت على الصعيد الشخصي؟

 

- حققتُ التأمل في الحياة محاولاً أن أكتشف سرّها العظيم، وكان الشعر- ومفتاحه الحرف- صليبي الذي حملته من زمن إلى زمن، ومن بلدٍ إلى بلدٍ، ومن منفى إلى منفى.  وفي واقع الحال، أعطاني الشعر حرية التأمل وصولاً إلى السؤال وليس إلى الإجابة. فالإجابة معروفة وخلاصتها الموت! لكن الشعر شجّعني على إطلاق أسئلتي، أسئلة الإنسان الكبرى والصغرى: من الموت إلى القُبلة، ومن المرأة إلى المشنقة، ومن البحر إلى الغراب، ومن البئر إلى الكابوس، ومن الحرف إلى النقطة!

 هكذا صار عليّ، لأعمّق قصيدتي، أن أتعرّف إلى تجارب مَن سبقني من الشعراء ومَن عاصرني من الشعراء، في الشرق وفي الغرب، وفي الشمال وفي الجنوب. فاغتنيتُ بثراء التجربة، وتألمتُ، من الأعماق، لحال الإنسان وهو يضيع في دروب الحياة بحثاً عن لغز الحياة. لقد أخذني الشعر، منذ بداياتي حتى الآن، إلى مديات عديدة متناقضة  وغريبة وعجائبية. فقادني من الآني إلى السرمدي، من المعنى إلى اللامعنى، من الحلم إلى اللاحلم، من المجهول إلى  المجهول الأكيد. ورماني على أرصفة الطرقات والقارّات أنادي على بضاعة منسية هي بضاعة المحبّة والأمل والحنان والصدق والبراءة. كما أنه أعطاني اسماً أدبياً، فلله الحمد، وعشر مجاميع شعرية، ومقالات ودراسات وكتباً نقدية  أثنتْ على تجربتي الشعرية، وجائزة إبداعية كبيرة، مثلما تُرجِمتْ قصائدي إلى عديد اللغات، كما أُختِيرتْ قصيدتي: "أرق" كواحدة من أفضل القصائد الأسترالية لعام 2007 ونُشرت في أنطولوجيا خاصة.

   ولن أبالغ إن قلتُ لك إن هذه أهداف- على أهميتها- عَرَضية. كان الهدف الأساس لكتابتي الشعر أن يعينني الشعر على الحياة ويكون لي دليلاً في ظلمتي ورحلتي البروميثوسية. لكن، كما يبدو، فالشعر يستطيع أن يقوم بذلك جزئياً. إنه ليس علاجاً ناجعاً، لا لعيب في الشعر نفسه، ولا لعيب في الشعر الذي أكتبه، إنما ليس هناك من علاج أصلاً ل"معضلة" الحياة. الشعر أو الموسيقى أو الرسم أو بقية الأجناس الأدبية أو الفنية عاجزة كلّها عن أن تعين الإنسان في "محنته" الكبرى المسمّاة: الحياة. فهذه الإبداعات تقف عاجزة أمام سرّ الموت أو الملل أو العبث أو اللاجدوى أو الغربة. وحين يمارسها الإنسان فإنه يفرح بعض الوقت وهو يترجم آلامه شعراً أو رسماً أو موسيقى. لكن فرحه لا يستمر طويلاً لأنه يملّ، في الأخير، حتّى من هذه "الترجمة الإبداعية" الناجحة. فهو يكتب شعراً متميزاً أو يرسم أو يكتب الموسيقى بطريقة مميزة. حسناً، لكن الموت- من الطرف الآخر- يتهدده بطريقة أكثر تميّزاً وبراعة وإبداعاً! وكذلك يفعل معه الملل أو العبث أو اللاجدوى أو الغربة!

 

  * ما هي طقوسك في كتابة الشعر؟

 -  في بداياتي كنتُ أكتب بالحبر الأخضر قصائدي ولا أبعث القصيدة الى الصحيفة أو المجلة الا وهي مكتوبة به. كنتُ أرى في الحبر الأخضر جمالاً خاصاً وأستنشقُ سعادةً غامرةً حين أخطّ به حروفي. وكنتُ لا أكتب القصيدة الا على ورقة بيضاء تماماً في مكان شديد العزلة. وأيام كنتُ أدخن فإنّ السيكارة لا تترك أصابعي وشفتيّ الا بعد انتهاء كتابة القصيدة: سيكارة تتبعها أخرى. هذا يعني أنكِ- إن دخلتِ عليّ- فستظنين أن حريقاً حقيقياً قد حدث في غرفتي لكثرة الدخان!

   لكن ذلك كله أصبح من تفاصيل الماضي. لم تعد العزلة الشديدة ضرورية، فأنا الآن أستطيع أن أكتب القصيدة وأنا جالس في المقهى أو المكتبة أو الباص أو على شاطئ البحر. كل ما أحتاجه الآن هو القلم والورقة- أياً كان نوعها أو شكلها- لكي ألوذ إلى أعماق الروح وأتماهى مع قصيدتي الجديدة إلى الحد الذي أفقد فيه إحساسي بالزمان وبالمكان. فإذا ما انتهت القصيدة وانسكبت روحها وروحي على الورقة، أفقتُ فإذا الساعات قد مرّتْ عليَّ كأنها الدقائق المعدودات، وإذا بالمكان أليفاً رغم حركة الناس وحضورهم وغيابهم وضجيجهم!

 وفي زمن الكومبيوتر جرّبتُ كتابة القصيدة مباشرة على شاشته المضيئة. وكانت التجربة غريبة جداً إذ أحسست حقاً أنني كمن يكتب الشعر للمرة الأولى رغم أنني قد كتبتُ من قبل عشر مجاميع بالتمام والكمال! ومع ذلك واصلتُ كتابة القصيدة وهي بعنوان: (جاء نوح ومضى). كانت الأسطر تولد على نحو لم أعهده من قبل: أيام الورقة والقلم، وكأنني لا أستطيع الإمساك بهذا الأسطر التي تولد بنبضة حياة شديدة العنفوان! أياً يكون الأمر فإنّ النتيجة جاءت مثمرة وجميلة في آخر المطاف بحيث نالت القصيدة هذه، وما كتبت بعدها من قصائد بهذه الطريقة، قبولاً نقدياً طيباً.

 

* حدّثني عن أديب كمال الدين بين غربتين: غربة الوطن وغربة الروح.

-  كما ذكرتُ في إجابتي لسؤالك الذي افتتحتِ به الحوار، فأنا أنتقلُ من بلدٍ إلى آخر ومعي صليب روحي: أسئلتي الكبرى عن مصير الإنسان في هذه الحياة: ما الجدوى وما الفائدة؟ الناس في شُغِل عن الموت: سؤال الحياة الأول والأخير وهم في شُغِلٍ عمّا ينتظرهم في ما بعد الموت، بل هم في شُغِلٍ عمّا ينتظرهم بعد حين من الدهر، فهم أبناء يومهم وأبناء ملذاتهم ودنانيرهم ودولاراتهم ومشاغلهم اليومية البسيطة والساذجة إذا ما قارنها بمسألة الموت الخارقة.

   نعم، وأنا أنتقل ومعي، في الوقت ذاته، إحساسي العميق بالسحر: سحر الجسد والبحر والشاطئ والجبل والصحراء والغابة. فتراني أتأمل هذا السحر الذي يسمّونه الجمال بعين مَن يراه للمرّة الأولى أو للمرّة الأخيرة. وبين رؤية المرّة الأولى للجمال ورؤية المرّة الأخيرة يلعب القلب لعبته العجيبة: لعبة الشعِر والحرف والحبّ والشوق العظيم! 

   أما أثر الغربة أو المنفى عليّ فكبير: فكل ما أكتبه الآن هو شعر غربة ومنفى! لكنْ ليس المنفى الجغرافي الذي أعاني منه فقط بل المنفى الروحي والإنساني والثقافي والديني والصوفي والاختلافي. مثل هذه المنافي لم تظهر فجأةً في عمّان أو في أستراليا بل كانت لها جذورها الشديدة الوضوح وأنا في العراق، منذ أن ولِدتُ في بابل العراق!

  هكذا فأنا أعاني من أنواع عديدة من الغربة، وليست الغربة المكانية بأولها على أية حال. وهكذا أيضاً وبسبب من تعقيد المسألة وتجذّرها في الأعماق، فإنني "وضعت" الغربة في "كيس" خاص في جسدي. هل سمعتِ بحالة يعاني فيها الإنسان من إصابته بإطلاقة نارية لتستقر الرصاصة في جسده، ولأسباب كثيرة، في مقدمتها رغبة الجسد في البقاء على قيد الحياة، فإنه يقوم ب"تكييس" أو "تلييف" الإطلاقة فيحدّ من خطرها المميت ويحدّ إلى حدّ ما من آلامها الوحشية؟ لقد استقرّت الغربة-الرصاصة في أعماقي داخل كيس خاص. ما اسم هذا الكيس الذي أحاط بالغربة- الرصاصة وروّضها إلى حدّ ما؟ أهو الشعر؟ أهو الحرف والنقطة؟ أهو الحرفنقطة؟ المهم أن الغربة بمخاطرها وآلامها تحت السيطرة حتى الآن، ولكن ليس لدرجة التصالح على الإطلاق!

  لقد تحدثتُ عن الغربة المكانية، آخر أنواع الغربة التي تعرّفتُ إليها، لكن الغربة الإنسانية أكبر من ذلك دون شك. وهكذا تبدأ غربتي، كإنسان وكشاعر، بتعبير حروفي،  من غين الغربة ولا تنتهي بتائها المربوطة! فلقد كنتُ مغترباً وأنا أعيش وسط الوطن، ووسط المجتمع العام والخاص، ووسط النخبة الثقافية التي ما أن حاولت الاندماج معها حتى اكتشفت مبكراً صعوبة وربما استحالة ذلك لأنها تتخذ من الأيديولوجيا تحديداً لماهية الأنسان. كان هذا في السبعينيات، ثم في الثمانينيات والتسعينيات حيث كانت النخبة تتماهى، بشكل أو بآخر، مع مؤشرات خطاب "القائد الضرورة". أي في الحرب وفي رعبها، وفي الحصار وفي ناره، اتسعت غربتي واشتدّت فلا أنا ممن كتب ولا أنا ممن مجّد فأراح واستراح بل كنت من الذين قاوموا بالكلمة عملية دهس الكلمة التي مارستها المؤسسات الثقافية. كنتُ من القلة القليلة التي ارتضت بهذا الصراع السريّ الخفيّ الخطر: أن تبقى في الداخل ولا تتماهى مع شروط إعلام و"إبداع "الداخل بل تؤسس بأظافرها المدماة لكلمة الحق. هكذا كتبتُ مجاميعي "تفاصيل" و"ديوان عربي" "وجيم" و"أخبار المعنى" و"النقطة" و"حاء". وهكذا واجهت المدّ الاعلامي الجنوني فاتخذت من قناع الحرف أولاً ومن قناع النقطة ثانياً وسيلةً للكشف عما يحدث من تزييف لحقيقة الشعر وجماله ومعناه.

   كانت الغربة بمرور السنين تشتدّ والثمن الذي أدفعه لكي أبقى حياً وسط حروب مدمرة وحصارات وحشية وتهميش إعلامي وثقافي غالياً. بعبارة أخرى، كانت الغربة داخل الوطن عذاباً حقيقياً لم يعرفه الاّ القلّة من الذين اختاروا معي صفاء الكلمة وشظف العيش وارتياب الآخر وتشكيكه وتهميشه بدلاً من مسخ الموقف والاندماج  بالمؤسسة.

     وما أن وصلتُ إلى أستراليا حتى بدأت غربة أخرى تطلّ برأسها: إنها غربة اللغة. ولحسن الحظ فإنني قد أعددتُ نفسي لها إعداداً جيداً حيث درستُ الأدب الانكليزي بكلية اللغات بجامعة بغداد في التسعينات. لكن الغربة كما اكتشفتُ ليست لغوية بل أوسع من ذلك، إنها حضارية. وهي غربة تقوم، في الغالب، على اصطدام الحضارات والثقافات. وأنا القادم من الشرق الفقير المحبَط هو مَن سيكون نقطة اصطدام الشرق بالغرب!     بالطبع هناك، مثلما أشرتُ في البدء، غربة الإنسان في هذا الكون. انها الغربة الأقسى. هي غربته وهو يحاول عبثاً فكّ طلاسم الموت: الوجه الآخر للحياة. هي غربة تطلق شرار الشعر فيَّ أبداً، وتدلّني، منذ كتابتي لقصيدتي الأولى وحتى الأخيرة، على انحسار الأمل لا انحسار السؤال. هذه الغربة هي ردبف عظيم للسؤال الشعري، رديف يتبعني كظلّي.

 

* بقناعتك كشاعر ما الذي يلغي الشعر؟

 - يلغيه أن لا تُحترم روحه الشفافة، الذكية، المتألقة فيتحّول إلى أداة للتكسب، والاستجداء. ويلغيه أن يتخلف عن روح العصر بطريقتين: الأولى أن يدير ظهره للمشاكل الكبرى التي تواجه الإنسان على هذا الكوكب المحاصر بالحروب العبثية، والعنصرية، والتطرف، وبالفروقات الهائلة بين الأغنياء والفقراء، والتلوث، والمخدرات، والوحدة، والعبث، واللاجدوى. والثانية: أن يتخلّف جمالياً فيُكتب بأساليب عفا عليها الزمن فيتجاوزه الزمن والقرّاء، أو يُكتب بتغميض مقصود- وليس بغموض خلاّق- فيتحوّل إلى طلاسم لا تحترم النبضة الإنسانية بل، ربما، تستهين بها.

   يحتاج الشعر، بشكل لا يقبل النقاش، إلى إيمان حقيقي وعميق وراسخ به وبدوره الإنساني الكبير. وغالباً ما يُتخذ من قبل عديد الشعراء أداةً لمآرب أخرى: المال والجاه والنفوذ والمنصب. ومثل هؤلاء الشعراء المزورون يتخلّون عن الشعر سريعاً ما أن يصلوا إلى بغيتهم وهدفهم. أما الشعراء الحقيقيون فيتمسّكون بالشعر لا يبغون عنه سبيلاً. هؤلاء يستطيعون أن يجددوا ويبدعوا ويتألقوا بنار الشعر ويتماهوا مع مباهجه الكبرى: وهي مباهج روحية خالصة دون أدنى شك.

 

* متى ينتابك القلق؟

- الشاعر كائن قَلِق! خلقه الله قَلِقاً لكي يتأمّل في الرحلة التي تبدأ بالصرخة وتنتهي بها، أعني صرخة الولادة ثم صرخة الموت. هكذا توجّب عليه لكي يكون شاهداً حقيقياً أن يفسّر لنفسه وللكون كيف أن الصرخة الأولى كانت مبهجة والثانية مرعبة أو العكس بالعكس. كما أُنيطَتْ به مهمة البوح بأسرار الحياة من حب وفراق وعذاب ونفي وجوع وعطش ومرض كما أُنِيطتْ به مهمة أن يبوح بأسرار الموت من رعب وخوف وفجيعة وظلمة وظلام. وإزاء مهمات كبرى وخطيرة من هذا النوع صار على قلب الشاعر أن يستوطن القلق ويتخذ منه رفيقاً وخليلاً حتى لا تفسده الطمأنية الزائفة عن مهمته الجليلة.

 

* أسماء ازدهر شعر الحداثة بكلماتها: السياب، البياتي، البريكان؟

- هذه أسماء شعرية كبيرة دون شك، كان لها الأثر الكبير في ما وصلت اليه القصيدة العربية الجديدة من تطور وتجاوز. ولولاهم – مع نازك الملائكة وبلند الحيدري وبعض من الشعراء العرب- لبقينا حتى اليوم نجتر القصيدة العمودية في كسل شعري بشع ومقرف!

   لكن هؤلاء إن اتحدوا في هدف التجديد، فقد اختلفوا في التعامل مع الأيديولوجيا. فلقد كان السياب ضحية للأيديولوجيا. كان ضحية سهلة بسبب تعامله الفلاّحي الساذج مع الأيديولوجيا حيث ارتبك تماماً إزاء سطوتها وهيمنتها وخطابها المخيف الذي يسحق كل مَن يتحداه. فصار يهجوها هجاءً مراً بعد أن حمل رايتها الحمراء زمناً هاتفاً بها وبرموزها في زهو عجيب لا يُحسد عليه.

  أما البياتي فقد كان على العكس من السياب في تعامله معها. لقد عرف- بدهائه ومكره  وقابليته الفذّة في "تسويق" شعره- متى يكون مؤدلجاً ومتى ينكر وقوعه تحت أي مسمّى أيدولوجي كان. وتفاصيل ذلك معروفة، وقد كتب عن هذا الموضوع عديد الشعراء والكتاب. البياتي انتهى "شاعراً إنسانياً بعيداً عن الأدلجة"، وهو الذي قام أغلب شعره على الراية الحمراء وبسببها أُشْتُهِرَ بعد أن تُرجِمَ شعره "النضالي" الى لغات العالم العديدة، وتناولت الصحف المؤدلجة شعره بالنقد التهليلي والتمجيدي ليصبح في آخر المطاف شاعراً عالمياً.

 فإذا ما انتقلنا الى البريكان، فسنجده- بعيداً عن أيّ مبالغة- شاعراً خطيراً حقاً. وقصيدته (حارس الفنار) قصيدة عظيمة بكل المقاييس النقدية الحديثة. ولو كان قد كتب عشراً من القصائد بالمستوى الفني واللغوي والروحي والفلسفي ل(حارس الفنار) لرأينا سياباً آخر لا يقل أهمية عن الأول بل ربما يتفوق عليه!

  لكنه إذ عاش في زمن طغيان الأيديولوجيا وهيمنتها الكبرى، فإنه عاش زاهداً بها وبأحزابها وراياتها وتناحرها المقيت، بل كان زاهداً بالعالم كله ومباهجه المزيّفة الزائلة. فماذا ستكون النتيجة؟ لقد اشتهر البياتي ونال مباهج الشعر وجوائزه كلها، ومات السياب مريضاً مغترباً مرتبكاً مُهمَلاً جائعاً مسحوقاً بعد أن قفز من أيدولوجيا الى أخرى في أسوأ توقيت زماني ومكاني يمكن تخيّله، وتُرِكَ البريكان لِيُقتَلَ بعد أن عاش طوال حياته منسياً مُهمّشاً منفياً في وطنه الأم: العراق!

 

* ماذا تعني لك المرأة؟

- المرأة سرّ من أسرار الحياة. هذه حقيقة فلسفية مكتوبة، ربما، بإسلوب شعري! وحين يُقال عنها أنها نصف الحياة الحلو أو الجميل فإن هذا وصف بسيط جداً، ومبتسر جداً، بل يكاد أن يكون مبتذلاً لشدة بساطته وابتساره. المرأة للشاعر وللفنان عموماً هي مصدر لا ينضب للجمال، أي مصدر لا ينضب للإلهام. فالبحر مثلاً سرّ عظيم، سرّ الهي كبير، لكن المرأة حين تسكنه أو تسكن ساحله فإنه يتحول إلى ساحة مليئة بالحياة والجمال والرغبة والحلم والضوء. والمطر، كذلك، رقصة غامضة مليئة بالأمل تشترك فيها السماء والأرض لكن حين تسكنه المرأة يتحوّل المطر إلى حياة من نوع آخر: حياة يتصارع فيها السرّ مع نفسه. في إحدى قصائدي الأخيرة تناولت موضوعة المرأة-المطر فكانت النتيجة هي قصيدتي: (عن المطر والحب):

سأكتبُ عنكِ قصيدةَ المطر.

سأكتبُ عنكِ قصيدةَ الحُبّ.

سأكتبُ عنكِ قصيدةَ الموت.

وسأسألكِ ببراءةِ الطفل:

أيكونُ المطر أقوى من الحُبّ؟

أيكونُ الحُبّ أقوى من الموت؟

أم هو الموت أقوى من المطر؟

*   *

سأسألكِ، إذن،

قُبلةً في المطر.

وسأسألكِ، إذن،

قُبلةً في الحُبّ.

وسأسألكِ، إذن،

قُبلةً في الموت!

*   *

أعرفُ أنكِ لن تستجيبي

فطلباتي جنونيةٌ خالصة

تربكُ قلبَكِ الباردَ المستكين

وناري سوداء مثل نار المجوس

لا تُبقي ولا تَذَر.

أعرفُ أنكِ لن تستجيبي

ولذا أعتدتُ على شمسكِ الحامضة.

فحين أقبّلكِ يختفي مطرُ قلبك

بل يختفي أرنبكِ الصغير.

وحين تقرّرين أن تمطري

يكون مطرُكِ، وا أسفاه،

مصحوباً بالزلازل

لأنّه يكون وقت انحسار البحر

وسيطرة الموت على سمائه العارية.

*   *

سأسألكِ، إذن،

موتاً مريحاً وسط المطر.

سأسألكِ حُبّاً وسط البحر

حين يتهادى بنا مركبُ الشوق والعنفوان

عاريين وسط زرقة المدّ والجَزر.

سأسألكِ أن تكتبي بسرِّ المطر

حرفي الملتاع

لأكتب بسرِّ السرّ

نقطتكِ الغامضة.

*   *

سأسألكِ العمر كلّه

وأعرفُ أنْ لا جواب.

وسأكرّرُ السؤالَ كلّ يوم

فالشعرُ هو الحُبّ

والحُبُّ هو المطر

والموتُ هو المطرُ والبحر.

*   *

سأكتبُ عنكِ، إذن،

قصيدةَ الموت:

قصيدة حرفها البحر والحُبّ

ونقطتها المطر.

وسأكتبُ عنكِ، إذن،

قصيدةَ الحُبّ

أيتها العاشقة التي تبدّلُ اسمها

كلّ يوم.

أعني سأكتبُ عنك،

بصبرٍ عظيم،

قصيدةَ البحر

حين يغرقُ شيئاً فشيئاً

وسط المطر!)

 

* أنطولوجيا (النار والسندباد) ماذا ترسم لك وللآخر؟

-  تقصدين أنطولوجيا (الثقافة هي) التي صدرت في أستراليا عام 2008 وأعدتها رئيسة الجمعية الأسترالية للكتّاب متعددي الثقافات القاصّة الدكتورة: آن ماري سمث

 Anne-Marie Smith

 نعم، لقد أختيرت قصيدتي ( النار والسندباد) ضمن ما يقارب من خمسين قصيدة وقصة ومسرحية لشعراء وكتّاب أستراليين أو يقيمون في أستراليا وينتمون إلى خلفيات ثقافية متعددة وبلدان متعددة مثل إيطاليا، الصين، العراق، لبنان، إنكلترا، صربيا، مالطا، فرنسا، أمريكا، اليونان، مقدونيا.. العراق، لبنان، سيرلانكا، إنكلترا، صربيا، مالطا، الصين،

   هذه الأنطولوجيا ترسم خارطة للاتصال بالآخر لتنقل اليه الهمّ الإنساني والروحي وربما السؤال الوجودي الأزلي. إنها وسيلة للاتصال بالآخر الملتاع بهجرته وغربته وانكساراته وأساطيره وخرافاته. فربما يخفف هذا الاتصال من وطأة العذاب قليلاً أو كثيراً، وطأة الزلزال المبثوثة على مقياس الحرف-نقطة!

 

* حسناً وكيف تم اختيار قصيدتك (أرق) ضمن أنطولوجيا أفضل القصائد الأسترالية؟

 - بعثت بقصيدتي (أرق) الى مجلة مينجن   Meanjin الأسترالية الشهيرة والتي تُعدّ أهم مجلة أسترالية ثقافية وكان خبر قبولها ونشرها لقصيدتي خبراً ساراً حقاً، فهي لا تنشر الأعمال الأدبية بأجناسها المختلفة الا بعد تمحيص وتدقيق شديدين. لكن الخبر الأهم هو اختيار الشاعر والروائي الأسترالي المعروف بيتر روز   Peter Rose   

  لهذه القصيدة ليضمها الى أنطولوجيته لأفضل القصائد الأسترالية المنشورة عام 2007.

 (The Best Australian Poems 2007)

  "وقد ضمّت هذه الأنطولوجيا قصائد لأكثر من ستين شاعراً أسترالياً مشهوراً من أمثال: لز موري، ديفيد معلوف، دورثي بورتر، ليسا غورتن، باري هيل، جون ترانتر، بيتر بورتر، جنفر هارسن، ألكس سكفرون، توماس شابكوت.

 

* الترجمة عمل أدبي وفني، هل تفقد الترجمة روحية النص؟

- نعم ولا. فهناك مجموعة من العوامل تشترك في تحديد هذه ال(نعم) وال(لا). منها خبرة المترجم، ومدى تمّكنه من اللغتين، ومدى تمرّسه في حقل النص المترجم، ومدى اتساع خزينه المعرفي الثقافي. هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن النصوص تختلف اختلافاً شديداً من حيث أسلوب كتابتها. وبعض هذه النصوص لا يمكن ترجمته على الأطلاق ولو بيد أفضل المترجمين لارتباطه الشديد من حيث بنيته الجمالية ورموزه وطروحاته بلغته الأم. فإن تُرجِمَ سقطَ موضعُ العجب فيه كما تقول العبارة التراثية المعروفة.

 

بين النقطة والحرف أين يكون أديب؟

  أنا النقطة باعتبارها مركز العالم حسب الفكر الصوفي، وأنا الحرف حامل السر الإلهي دون شك. وما بين الاثنين كانت هناك رحلة شعرية طويلة ومختلفة ومتنوعة.

   لقد بدأتُ تجربة كتابة القصيدة الحروفية مع مطلع الثمانيات بقصيدة (طلسم) ثم قصيدة (كهيعص). واذ استفادت الأولى من المستوى الرمزي-السحري للحرف، وكتب عنها أول مَن كتب الناقد التونسي د. مصطفى الكيلاني، فإن الثانية استفادت من المستوى القرآني  للحرف وكتب عنها أول مَن كتب د. رياض الأسدي. ثم كتبتُ قصيدة (جيم) لتستفيد من المستوى الرمزي للحرف.

  في مجموعة (نون) دخلتُ بقوة على المستوى التشكيلي لحرف النون. وهو غني جداً بهذا المستوى. كما عمّقت تناولي لمستويات الحرف الأخرى في هذه المجموعة كالمستوى القناعي، الدلالي، الترميزي، التراثي، الأسطوري، الروحي، الخارقي، القناعي، الإيقاعي، الطفولي.

   وفي مجموعة (أخبار المعنى) زاوجتُ ما بين الحرف والمعنى، وجعلتُ للمعنى- كي أتعرّف عليه وعلى الحرف أيضاً- ألفه وداله وكافه وصاده وسينه، مثلما جعلتُ للمعنى بيته وموته وقبوره وسلامه ووصوله وأخباره وشمسه وزمنه وضحكه وعريه وماضيه وشمسه وإيقاعه وارتباكه ومأساته وخيانته في آخر المطاف.

  وبصدور مجموعتي السادسة (النقطة) أكون قد دخلتُ إلى النقطة محاولاً كشف سرها العتيد. فكانت هناك 30 "محاولة" شعرية فيها اختصت ست منها بالنقطة عبر أناتها ودمها وسؤالها وحقيقتها ودخولها وفرحها. وكانت قصيدة (محاولة في أنا النقطة) مركزاً لتناول نقدي واسع فلله الحمد. وفي مجموعة (حاء) اقتربتُ من الحاء: حاء الحبّ والحرية والحرب، وهي حاء الحلم الجبار الذي يكاد أن يختصر الشعر كله ومعناه كله وغموضه الذي لا حدود له.

  أما في مجموعة (ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة) فبدأ حوار الحرف والنقطة كقناعين متناقضين ومنسجمين لي يأخذ مدى أكثر اتساعاً وحضوراً لكشف وقائع اندماج غربة الروح بغربة البحر في البلد الجديد: أستراليا، وغربة الواقع بغربة الحلم، وغربة الحب بغربة ممارسة الجنس، وغربة الطفولة بغربة الشيخوخة، كما في قصائد (اعترافات النقطة) و(حوارات النقطة) و(ضجة في آخر الليل) و(صيحات النقطة).  لقد كان الحرف والنقطة يشكّلان وجهي الجسد والروح عندي، ووجهي الصوت والصدى، ووجهي السؤال والجواب، ووجهي المعنى واللامعنى، ووجهي الأسطورة والحقيقة، ووجهي الوطن والمنفى، ووجهي الإيمان والزندقة، ووجهي اليقين والشك، ووجهي العذاب والراحة، ووجهي الأمل والسوداوية،  ووجهي الطين والرماد، ووجهي القصر والقبر، ووجهي الإبصار والعمى، ووجهي الثبات والارتجاف، ووجهي اللاخطاب وفصل الخطاب، ووجهي الوصول واللاوصول، ووجهي الانتصار والاندحار، ووجهي اللعب والجد، ووجهي الهذيان واللاهذيان، ووجهي الظلام والنور، ووجهي الحياة والموت بعبارة أكثر تكثيفاً. وفي كل هذه الثنائيات تكمن النقطة ويتألق الحرف دائماً وأبداً ويكمن حوراهما الذي يبدو ألا نهاية له.

  وفي مجموعة (شجرة الحروف) وما تلاها من قصائد تعمّق الحوار الحرفنقطوي أكثر فأكثر لتتم من خلاله مناقشة أسئلة الإنسان اليومية والأزلية وارتباكاته وأحلامه ورعبه وهو يواجه مصيره المحتوم منفرداً إلا من وحدته وخيبته وانكساره وعزلته.

    هكذا، إذن، صار مشروعي الشعري كله قائماً على استلهام الحرف والتعريف به والتناص معه واتخاذه رمزاً وقناعاً ورفيقاً وحبيباً وصديقاً وخليلاً وعاشقاً ومعشوقاً ومريداً وقطباً وأباً روحياً!

لقد أخلصتُ للحرف- أو للحرفنقطة- حتى أكرمني وأدخلني في قاعة عرشه وقبّلني ما بين عينيّ وأجلسني إلى جانبه وخلع عليّ رداء حكمته وأفصح لي عن أسراره وخَطَرات قلبه بلطفٍ نادرٍ وجمالٍ عجيب ومنحني- وأنا الفاني الضائع المنفيّ المنسيّ- كأسَ البهجة والمسرّة والخلود.

 

بين القدر والأسرار ماهو المعنى؟

- ربما يكون القدر هو المعنى أو ربما هو المعنى الوحيد. وإذا كان ذلك صحيحاً فهذا يعني أن كفاح البشرية عبث مطلق مادام القدر هو المعنى. وربما يكون السرّ هو المعنى. ولكن أي سرّ؟ أهو سرّ الحياة؟ أم سرّ الموت؟ أم سرّ الخلود؟ ثم مَن كشفه أو مَن سيكتشفه؟ ومَن يقدر على ذلك؟

 

* ما الذي أضافه كتاب (الحروفي) الذي أعده د. مقداد رحيم بمشاركة 33 ناقداً وكاتباً، وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، إلى تجربتك الشعرية؟

 - أضاف إليّ حقيقة أن ما قدمته من شعر كان مقبولاً نقدياً بحيث تناوله نقّاد وكتّاب من مدارس نقدية مختلفة، وطرائق نقدية مختلفة. وكان منهم الناقد الأكاديمي، والناقد الصحفي، والناقد الانطباعي، والناقد-الشاعر، والناقد الحداثي ليدرسوا ويحللوا ما كتبته عبر زمن تجاوز أكثر من ثلاثين عاماً. وقد أناروا، دون شك، رموز قصائدي وزواياها كلّ حسب اجتهاده وقدرته وثقافته وموهبته. فلهم أقدم الشكر من الأعماق جزيلاً.   


******************************

نُشِرَتْ في  موقع النور  في 19 نيسان  2009

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home