الشاعر العراقي أديب كمال الدين:

-  أنا ابن بغداد وبابل! أعطتني المدينتان سرّ الإحساس بالتأريخ.

- الشاعر يبقى يشرب من بئر طفولته حتى اليوم الأخير من حياته!

-  أشعر بالأمان الحقيقي حين أقرأ القرآن الكريم

-  أعطاني الشعر حرية السؤال لا حرية الإجابة، فالإجابة خلاصتها الموت.

-  لعب غياب الحرية دوراً أساسياً في إنتاج أدب عربي شبه ميت.

جامعة صدّام كانت سجني الأكبر!

- الأنثى يمكنها كسر الملل.. والصوت أيضاً!

حوار: انشراح سعدي- الجزائر

 

 

 

  شاعر أبدعَ من النقطة مجاميع شعرية أثارت الإعجاب والجدل، وكتبَ قصائد حروفية أرّخ فيها للوجع والحرب والحبّ بطريقة صوفيّة جديدة، تحدّث عن بابل وبغداد وعن النقطة والحرف والقصيدة والرواية مثلما تحدّث عن الغربة والحرية في ضوء مشوار حافل تُوّجَ بمجاميع شعرية خالدة. الشاعر أديب كمال الدين في حديث عن مشواره ل"اليمامة".

* بابل 1953 كان المولد، كيف كانت طفولتك في العراق وصباك، وهل تبتاع الأمل والدهشة من دكاكين الطفولة الأبدية حين تفرغ بطارياتك في الغربة؟

- لم تكن طفولتي سعيدة، بل على العكس كانت ملأى بالحزن والحرمان. وقد ترك ذلك أثراً في الروح لا يّمحي!

  كما كان هذا الأثر دون شك محفّزاً لكتابة ما لا نهاية له من القصائد الحروفية التي تتساءل ببراءة عن سرّ الحياة ومغزاها. نعم، فالطفولة كالبئر التي يحدّق الشاعر في مياهها العميقة علّه يجد نفسه أو يفهم سرّها. هكذا يبدو الشعر محاولة لاستعادة طفولة ضائعة والبحث عن شموسها التي غرقت في الأنهارأو البحار، أو ضاعت في تجاويف الزمن ورحلته الأبدية العبثية.

  ربما تختصر قصيدتي"طائرة ورقية" الجواب، وتجيب على سؤالك بلغة الشعر:

(في طفولتي

صنعتُ من حرفي طائرةً ورقية

طائرة ما أن رآها الأطفال

تطيرُ عالياً في السماء

حتّى سرقوا خيطها الطويل.

لم أعر انتباهاً لما حصل

وصرتُ أحملُ طائرتي بيدي

وأمشي فرحاً في الأسواق.

وحين أصبحتُ شابّاً

قبّلتْني امرأة أجملُ من اللذة

لتسرق ذيلَ طائرتي وتمضي.

لم أعر انتباهاً لما حصل

لأنَّ الحربَ بانتظاري

لتسرق هي الأخرى،

لتسرق العودَ الصغيرَ في وسطِ الطائرة.

هكذا أصبحتْ طائرتي مجرّدَ ورقة

ليس إلّا

حملتُها ومضيتُ لأعبر البحر.

لكنّ البحر،

بحركةٍ عنيفةٍ ومفاجئة،

أسقطَ طائرتي في مائه المالح.

ولكي أُخرجها منه

كُتِبَ عليَّ أن أموت كلّ ليلة

لأربعين عاماً

حتّى أُخرجها في آخرِ المطاف

ورقةً مبلّلة

ليس فيها من مباهج الطفولة

سوى لونها،

سوى لونها الباهت المّمزَّق!).

الحرب والغربة

* هل توجد نقطة مفصلية في حياتك هي صانعة أديب كمال الدين؟

- حياتي منذ الولادة وحتى الآن تخرج من مفصل لتدخل في آخر. فلقد مررتُ بمفصل الحرب ثم مفصل الحصار ثم مفصل الغربة، وبين ذلك كله يبزغ مفصل السؤال عميقاً وكبيراً: حول الحياة ومغزاها والإنسان ودوره في هذا الكوكب العجيب. إنه المفصل الفلسفي الذي اشتبك بعمق خطير وجاد ودامٍ مع المفصل الحياتي. غير أن مفصل الحب يبقى هو الأقوى. فلقد قادني ليس فقط إلى كتابة الشعر، أعني بداياته بل قادني إلى الإستمرار في كتابته لسنوات طوال وسيقودني إلى كتابته إلى ما شاء الله.  طبعاً الحب الذي أعني هو الحب بمفهومه الكبير الذي يتسع ليشمل تفاصيل الحياة كلها، وليس فقط حبّ المرأة. وإن كان الحبَ الأخير هو الأعمق دون شك!

* هل شعر والداك أن فيك ما يميزك كطفل، إن كان ذلك، كيف؟

- والدي رحمه الله كان يؤكد على الدراسة والتعلّم. وقد شجّعني على ذلك مثلما شجّع إخوتي وأخواتي جميعاً على هذه المسألة المهمة، كما كان يشجّع، باستمرار وبجدّية، على التفوق والحصول على أعلى الدرجات. وهكذا فقد كان هناك أكثر من درجة دكتوراه في العائلة. وقد كنتُ بطبعتي ميالاً للقراءة منذ الصغر. وساعد وجود مكتبة عامرة في البيت على أن أقرأ منذ وقت مبكر جداً في حياتي مختلف الكتب وفي مقدمتها قصص ألف ليلة وليلة وروايات جرجي زيدان وقصص تشيكوف. وفي مرحلة لاحقة قرأت روايات نيكوس كازنتزاكي. وقد ألهبت هذه الكتب خيالي بشكل عميق جداً سهّل عليّ، بالطبع، الدخول إلى مملكة الشعر الغامضة وطرح أسئلة الحياة وجدواها من خلال حروف هذه المملكة العجيبة.

* متى كتبتَ شعراً أول مرة؟ وماذا تتذكّر من إشراقات تلك اللحظة؟

- القصيدة الأولى هي قصيدة بعنوان: (قصيدة حبّ) وقد كتبتها عام 1973 إثر تجربة حبّ عميقة وتراجيدية وهي قصيدة طويلة تقوم على مبدأ الحوار ما بين الشاعر وموضوعة الحب. وقد نُشِرت القصيدة في مجموعتي الأولى: (تفاصيل) الصادرة في العراق عام 1976 

 

*هل كان في محيطك من يتعاطى الشعر؟

- جدّي حسين كمال الدين رحمه الله كان شاعراً من شعراء ثورة العشرين. لكني لم أره فقد توفي قبل ولادتي بزمن طويل.  لكن العائلة كانت، بشكل عام، تتعامل وتهتم، بعمق، بالقضايا الأدبية والفنية والترجمية. أخي د. جليل كمال الدين مترجم وأستاذ جامعي معروف وأخي د. عبد الإله كمال الدين أستاذ جامعي في كلية الفنون الجميلة وله إسهاماته في النقد والإخراج المسرحيين. وهناك مِن الأقارب مَن له أسهامات معروفة في كتابة تأريخ العراق مثل المرحوم محمد علي كمال الدين وفي المسرح مثل حازم كمال الدين وفي القصة مثل طلال كمال الدين وغيرهم.

بابل وبغداد

* يقول الشاعر الفرنسي شارل بودلير "إن الشعر هو الطفولة عُثر عليها ثانية"، ماذا أضافت لك بغداد وبابل كمكانين رمزيين؟

- أنا ابن بغداد وبابل! أعطتني المدينتان سرّ الاحساس بالتأريخ. فإذا كانت بابل هي حاضرة البشرية الأولى وحضارتها، فإن بغداد كانت هي سرّ سعادة العرب بإسلامهم، أي بكينونتهم الإبداعية التي مكنتهم من تأسيس إمبراطورية عظمى امتدت شرقاً وغرباً ونشرت حضارة إنسانية وأضافت للمنجز البشري إضافة لا يُمكن إنكارها حتى من قبل الكارهين!

  معظم رموزي وأقنعتي الشعرية هي من نتاج هاتين المدينتين العظيمتين ومن مدن العراق الأخرى التي لا تقلّ أهمية عنهما كأور ونينوى والبصرة والكوفة: هكذا ظهر وبقوة في قصائدي حمورابي ونبوخذنصر وكلكامش وأنكيدو والمعرّي والتوحيدي والحسين والمأمون والشريف الرضي  وغيرهم.  ومع هذا بالطبع ظهرت رموز الإنسانية الكبرى كنوح وإبراهيم الخليل ويوسف وموسى وعيسى ومحمد (صلوات الله عليهم)، كما ظهرت رموز الإنسانية الأخرى ذات البعد المسرحي والتراجيدي كأوديب وهاملت وأوفيليا وماكبث!

  كلّ هذا ظهر لأنّ شعري معني أولاً وأخيراً بالإجابة عن معنى الحياة وسرّها، وعن معنى الموت وسرّه، ولماذا كُتِبَ على الإنسان مثل هذه الرحلة العجيبة المليئة بالأحزان والمآسي: الرحلة لم يخترها لا في توقيت الولادة ولا في توقيت الموت!

 أما عبارة بودلير عن علاقة الشعر بالطفولة، والتي وردت في مطلع سؤالك، فهي عبارة تكاد لجمالها الفائق أن تكون عبارة سحرية! فالشاعر يبقى على الدوام يشرب من بئر طفولته حتى اليوم الأخير من حياته!

* ماذا شكّلت الجامعة في حياة أديب كمال الدين (1976-1999)، في ظل عراق لم يعرف أبجديات الكلام أوالرفض؟

- الحياة في ظل الديكتاتورية كانت عبارة عن سجن كبير. وفي الجامعة لم يكن الكلام أو النقاش مسموحاً على الإطلاق الاّ بالصورة التي تريدها الديكتاتورية في أي موضوع كان أكاديمياً أو سياسياً أو دينياً أو إجتماعياً. كان (الخروج على النَص) يقود إلى الهلاك الأكيد! وفي الجامعة: جامعة بغداد حيث درستُ الإقتصاد في السبعينات ثم درست اللغة الإنكليزية في التسعينات  كانت الحياة الأكاديمية مسيّسة على نحو مفجع وتكميم الأفواه هو الإشارة البارزة!

* "إن الحريات التي تمنح لكلّ الكتّاب العرب مجتمعة لا تكفي مبدعاً واحداً" كيف تقرأ هذه المقولة؟

- هذه المقولة صحيحة تماماً للأسف! وقد لعب غياب الحرية دوراً أساسياً في إنتاج أدب عربي شبه ميت على مدى العقود الأخيرة. ولو كانت لدينا حرية- ولو بنسبة معقولة- لقرأتِ أدباً عربياً آخر، أدباً يناقش عذابات الإنسان ورغباته وآلامه وأحلامه ويكشفها من مخابئ الروح والمجتمع بتألق وإبداع حقيقيين. لكن آلة القمع العربية فعّالة على نحو مخيف ومدمّر بحيث جعلت أغلب ما يُكتب يكشف عن السطوح ليس إلاّ وبقي الأهم والمهم تحت الأعماق!

 لكنني أرجو أن لا أكون شديد التفاؤل إذا ما تصورت أن الإنترنيت قد حقق ثورة على صعيد البشرية كلها، وأن "ثورة" الإنترنيت في البلدان العربية- رغم النسبة الضعيفة في استخدامه إذا ما قورنت ببلدان العالم الأخرى وبخاصة بلدان العالم المتقدم- خففت إلى حد ما من هذا الغياب المُهلك للحرية والحضور العنيف لآلة القمع، كما كسّرتْ، إلى حد ما، من الحدود العربية المخيفة أمام حركة الكتاب العربي.

 الآن يمكن قراءة الكتب على الانترنيت مفتوحة اليدين والقلب! فشكراً للإنترنيت الذي حقق حلماً إنسانياً قديماً وعظيماً، وعسى أن تنجح هذه الثورة الكبرى في تحقيق إنتشار الكتاب العربي وإيصاله إلى القراء والحد من نسبة القراءة المتدنية لدى الشعوب العربية على نحو يثير الرثاء والخجل!

* قلت في أحد حواراتك: "أنا لا أستخدم المصطلحات والمعاني الصوفية  كما هي في التراث الصوفي المعروف، بل استخدمها،  في الغالب،  كما افهمها أنا،  أنا الذي احتوى فيّ العالم الأكبر، مستنداً في ذلك على ثقافتي القرآنية  والدينية  والتراثية  مع ثقافتي المعاصرة، ثم إنني  أمنح المعنى  الصوفي معنى حسياً". كيف ذلك؟

-  نعم قلت ذلك. إنّ ما يميز تجربتي الحروفية عن الاستخدام الصوفي الحروفي المعروف هو إن الاستخدام الصوفي الحروفي كان ذهنياً على الأغلب، وأحيانا طلسمياً لا يفهمه الاّ خواص الخواص. وقد حاولتُ جاهداً أن أجعله شعرياً عبر الصورة المجسّدة، ذلك أن الذهنية برأيي هي أشد أعداء الشعرية ضراوة. وحاولتُ أيضاً أن أجعل استيعاب هذا الاشتغال مشاعاً للكلّ دون أن أفقد الخواص ولا خواص الخواص. وفي ذلك يكمن التحدي الجمالي: الشعري: الفلسفي لتجربتي الحروفية.

  كذلك حاولتُ بقوة أن أستخدم الحرف للتعبير الحيّ عن الأعماق الجوّانية لي ولمجتمعي في زمن القمع وتكميم الأفواه ذلك أن الحرف هو مَن يتكلم وينتقد والنقطة هي مَن ترفض وتحتج. وهذا تحقق لأنّ للحرف تأويلات وإشارات عديدة لايمكن للرقيب محدود الفهم والذائقة من الاحاطة بها أو ببعض تفاصيلها.

  كان الحرف ولم يزل سبباً في خصوصيتي الأسلوبية الشعرية. ولم يكن الوصول إليه سهلاً البتة. لكنني عشقته فسهّل العشق عليّ الوصول ثم القبول ثم المثول في حضرته حتى الهيام والتماهي. وربما، وبخاصة، وقت الحريق الشعري أعني وقت كتابة القصيدة، يصل الأمر إلى درجة نسيان السبب والمسبب في رحلة الحياة. هكذا وعبر كتابة المئات من القصائد الحروفية التي اتخذت الحرف قناعاً وكاشفاً للقناع، وأداةً  وكاشفةً للأداة، ولغةً خاصةً ذات رموز ودلالات وإشارات تبزغ بنفسها وتبزغ باللغة ذاتها لإزالة عتمة هذه اللغة وعجزها وقصورها وتعسفها وارتباكها، عبر هذا كله أخلصتُ للحرف عبر عقود من السنين حتي أصبح قَدَري الذي لازمني  وسيلازمني للنهاية.

  ثم تعرّفت خلال رحلتي إلى أسراره فكانت مجموعتي الشعرية (نون) بهجة المحبّ وحليب العصفور وهلال العيد والحلم والنوم والجمال المهلك والهالك والحرمان والارتباك والدوران والقمع والاحاطة والسيطرة. كانت النون رمزاً لمحبة كلّ شيء قريب وفي متناول اليد كما القمر في متناول المجنون وهو يرى صورته منعكسة فوق سطح الماء!

 وقبله كانت (الجيم) إشارة الجنون والجثة والجحيم والجند والحرب والدم. لكن (النقطة) كانت هي الكينونة دون شك. ففيها السرّ الأعظم وفيها الطلسم الذي لا يفكّ رموزه أحد وإن ادعاه الجميع لقداسته وعمقه ولطفه الذي لا يعرفه سوى الخواص وخواص الخواص. وستكون (الحاء) حاء الحبّ والحرية والحنان دون شك، لكنها حاء الحرب والحريق  قبل ذلك وبعده، وهي حاء الحلم الجبار الذي يكاد أن يختصر الشعر كله ومعناه كله وغموضه الذي لا حدود له.

  وقد صدرت لي من (شجرة الحروف) فكان الثمر غريباً والرحلة التي قطعها الغريب أكثر غرابة. وكدتُ أسمّيها "شجرة اليأس" لولا إخلاصي الذي لا حدود له للحرف، ولولا محبتي التي لا يساورها الشك لشجرة الأمل وإن بدت صغيرة جداً وشاحبة جداً ومتعبة جداً لشدة العاصفة التي تحيط بها وبي. وكان عليّ أن أوثّق لما جرى لي بلغة الاعتراف الجميل الذي سيراه بعضهم لذيذاً والآخر مليئاً بالغموض والثالث عذباً والرابع...أو بلغة الفاصلة الجسدية والزمكانية التي تغني القصيدة وتزيد، ربما، من سعة آفاقها لتحتوي الحياة كلها في لحظة نادرة. أما آخر العنقود الحروفي فكان (أربعون قصيدة عن الحرف). هذه المجموعة هي تعميق وتوكيد وتجديد لكل ما سبق لي من منجز حروفي شعري.

   لكن الرحلة لا تنتهي بالموت ذلك عجب الدنيا العجاب، لأنّ الحرف لا ينتهي وتأويله شعراً لن ينتهي، وفي هذا بعض العزاء لي بأن سكني في لحاء الحرف قد أنار لي ظلمةَ وداعي وأعانني على الوصول إلى شيء ما وإن كان سرّ هذا الشيء مجهولاً للطفه العميق.

  لقد عالجتُ كوارث الدنيا وظلامها الكثيف بالحرف وداويتها به. وكان العلاج شافياً للوهلة الأولى، لكن الظلام كان مزمناً فصار عليّ - أنا المنسيّ المنفيّ في جسده قبل وطنه وفي وطنه قبل جسده- أن أعيد العلاج المرّة تلو الأخرى. ولذا أبدلتُ الحرف من (الجيم) إلى (النون (إلى (الحاء) إلى (النقطة) إلى (ما بعد الحرف.. ما بعد النقطة) وإلى (شجرة الحروف) أخيراً، ثم حاورت النقطة والحرف وجعلتهما يتحاوران في كلّ شيء ويتناغيان ويتساءلان ويكتشفان بعضهما بعضاً وينصهران إلى حد التلاشي والذوبان. ثم جعلتُ النقطة تعترف وترقص وتبكي وتغني وتعشق وتهيم وتجنّ وتشطح وتشرق أبداً في البر والبحر والنهر.

 

* المكان الرحمي هو حسب غاستون باشلار هو أكثر الأماكن أماناً، أين تشعر بالأمان؟

- لا تندهشي كثيراً حين أقول لك إنني أشعر بالأمان الحقيقي حين أقرأ القرآن الكريم في أيّ زمان أو مكان. فيه أشعر أنني دخلت تحت سقف الرحمة الإلهية التي لا يحدّها المكان ولا يحيطها الزمان وهي التي وَسعت كل شيء.

  وكم من نائبة مررتُ بها فكانت المعجزة العظيمة التي حيّرت العقول قديماً وحديثاً هي من ينتشلني من موتي المحقق وهلاكي الأكيد! كانت المعين حيث لا معين وكانت الملاذ حيث لا ملاذ وكانت النجاة يوم اسودت الوجوه في الدنيا قبل الآخرة!

  أقول لك هذا ولا بأس أن نتذكر أن تأريخي الشخصي هو تاريخ حرب وحصار ومنفى وأن تاريخ العراق الحديث هو تاريخ حرب وحصار ومنفى!

 

* أعرف ما أعطاه أديب كمال الدين للشعر، ولكني أجهل ما أعطاك الشعر؟

- أعطاني حرية السؤال لاحرية الإجابة. فالإجابة معروفة وخلاصتها الموت! لكن الشعر شجعني على إطلاق أسئلتي، أسئلة الإنسان الكبرى والصغرى: من الموت إلى القُبلة، ومن المرأة إلى المشنقة، ومن البحر إلى الغراب، ومن البئر إلى الكابوس، ومن الحرف إلى النقطة!

  صار عليّ، لأعمّق قصيدتي، أن أتعرف إلى تجارب مَن سبقني من الشعراء ومَن عاصرني من الشعراء، في الشرق وفي الغرب، وفي الشمال وفي الجنوب. فاغتنيتُ بثراء التجربة وتألمتُ لحال الإنسان وهو يضيع في دروب الحياة بحثاً عن لغز الحياة. لكنه ألم الشجعان، ألم من يموت وحيداً كشجرة وحيدة في الصحراء.  

 لقد أخذني الشعر إلى مديات عديدة متناقضة  وغريبة  وعجائبية. فقادني من الآني إلى السرمدي، من المعنى إلى اللامعنى، من الحلم إلى اللاحلم، من المجهول  إلى  المجهول الأكيد. ورماني على أرصفة الطرقات والقارت أنادي على بضاعة منسية هي بضاعة  المحبة والأمل والحنان والصدق والبراءة.

 كما أنه أعطاني اسماً أدبياً، فلله الحمد، ودواوين عديدة  ومقالات وكتباً نقدية  أثنت  على تجربتي الشعرية  وجائزة  إبداعية كبيرة مثلما تُرجمت قصائدي إلى عديد اللغات وكذلك اختيرتْ قصيدتي "أرق"    Sleeplessness كواحدة من أفضل القصائد الأسترالية لعام 2007 ونُشِرتْ في أنطولوجيا خاصة أعدّها الشاعر الأسترالي والروائي المعروف بيتر روز Peter Rose . لكن هذا كله لا يطمئن الروح التي تبحث، آناء الليل وأطراف النهار، بين أرصفة السنوات والبلدان والقارات عن الطمأنينة والحب.  بعبارة موجزة، لقد فجّر الشعر في أعماقي سؤال الحلم  الإنساني الكبير وذلك مجده الأكيد!

 

* يقول النفري: "كلما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة". هل تضيق العبارة عند أديب كمال الدين لتصبح حرفاً واحداً أو نقطة؟

- هذا سؤال جميل وحقيقي. نعم، هذا حصل حتى صار مشروعي الشعري كله قائماً على استلهام الحرف والتعريف به والتناص معه واتخاذه رمزاً وقناعاً ورفيقاً وحبيباً وصديقاً وخليلاً وعاشقاً ومعشوقاً ومريداً وقطباً وأباً روحياً!

لقد أخلصتُ للحرف أو للحرفنقطة حتى أكرمني وأدخلني في قاعة عرشه وقبّلني ما بين عينيّ وأجلسني إلى جانبه وخلع عليّ رداء حكمته وأفصح لي عن أسراره وخَطَرات قلبه بلطفٍ نادرٍ وجمالٍ عجيب ومنحني وأنا الفاني الضائع المنفيّ المنسيّ كأسَ البهجة والمسرّة والخلود.

 

 نعم، فالحرف كما أرى شبكة  لصيد البهجة والألم العظيم. الحرف، قبل كل شيء، سرّ عظيم  لا يعرفه حق المعرفة الاّ القلة. وكلما ازدادوا معرفة به ازدادوا معرفة بالعالم وكلما ازدادوا معرفة  بالعالم ازدادوا جهلاً بأنفسهم وبالشعر وبالحرف حتى!

نعم، فالحرف سرّ بذاته،  الحرف العربي تحديداً، ففيه حضور إلهي وقوة  سماوية  وفاعلية  توصيلية  وعنفوان داخلي لا يمكن سبر أغواره مطلقاً لأنّ هذا الحرف حمل المعجزة الإلهية  الكبرى على مر العصور، حمل آخر معجزات  الأنبياء وأكثرها ديمومة  وقدرة  على مواجهة  الممكن واللا ممكن، اليومي والسرمدي،  الظاهر والباطن،  الأبيض  والأسود،  العاشق والحاقد، المؤمن والكافر، المهذب والمتوحش، الخبيث والطيب، الذي يعلم والذي لا يعلم.

* هل تشعر أنك قدمتَ إضافة  للشعر في زمن اللاشعر؟

-  لا أحبّذ مطلقاً تسمية: "زمن اللاشعر"! فكلّ زمن هو زمن شعري مادام الإنسان يتنفس فيه! لكأنكِ ترين أزمة في الشعر العربي، فأقول لك: نعم إن هناك أزمة في الحصول على الشعر الجيد المتفوق المبدع، لأنّ الكثير من الشعراء والشاعرات في أقطارنا العربية يفتقدون إلى الفهم الدقيق لمسألة بنية القصيدة، ولمسألة النمو العضوي في القصيدة، ومسألة الاقتصاد في اللغة، ومسألة القاموس الشخصي للشاعر، كما يعانون من الخواء الروحي والإنساني أحياناً. الكثير منهم  لا يملكون تجارب روحية أو إنسانية ذات شأن أو عمق. وتجدين جملهم الشعرية وصورهم الفنية مليئة بالتغميض والترهل والتقعير والهذيان اللامجدي حتى تحوّلتْ قصائدهم إلى مايشبه  ركاب عربة القطار الذين لا يعرف بعضهم بعضاً البتة، ولا يجمعهم أي جامع سوى العربة. مثل هؤلاء الشعراء  يهرفون بما لا يعرفون!

 وأعود إلى تسمية: "زمن اللاشعر" فأقول: لا الشعر انتهى ولا مهمة الشعر انتهت. الشعر كما أراه هو اكتشاف الحياة في ومضة نادرة وبأقل عدد من الكلمات. كيف ينتهي إذن؟ كيف تنتهي مهمة اكتشاف الحياة، والحياة نفسها، منذ قدمها السحيق، تتجدد كل يوم؟ ربما يكون مبعث سؤال كهذا هو ندرة الشعر الحقيقي. وهذه مسألة غير جديدة. الشعر الحقيقي والعميق نادرعلى الدوام. والغلبة في الظهور، على الأكثر، للنماذج غير الأصيلة، للنماذج التي تعوزها الومضة النادرة في اكتشاف الحياة أو تعوزها قدرة الشاعرعلى تجسيد هذه الومضة بشكل عميق ومبتكر دونما تعقيد أو تغميض. وبالتغميض أعني الغموض المفتعل وليس الأصيل.

  نعم، إنّ معادلة الإبداع في الشعر صعبة حقاً، وتتطلب من الشاعر خبرة حياتية وثقافية ولغوية وشعرية، مع مران مستمر، وإيمان حقيقي بالشعر ودوره الإنساني الخلاق، مع الحرص الصادق على عدم ابتذال الشعر بأيّ شكل من الأشكال.

 

* كيف تتمثل المرأة في تجربتك؟

- المرأة: الأنثى هي خلاصة الذكر، الرجل، الشاعر وجدواه ومسرّته وفرحه وعذابه وقلقه ولاجدواه. الأنثى هي ماضيه ومستقبله. وهي بالتأكيد حاضره الذي ينتج في فضائه ما يُقـّدر له من نصوص. وعلى هذا تكون هيمنة الأنثى في النص منطقية جداً وضرورية جداً.

 المرأة وحدها هي التي تستطيع أن تكسر حاجز الملل في الحياة، لكنها عند الشاعر تستطيع أيضاً أن تكسر حاجز الصوت أيضاً! وهي تستطيع أن تصبّ في روحه الفرحَ صبّاً مثلما تستطيع أن تكسر له زجاج روحه ليبقى ملتاعاً حتى النفس الأخير. هذه هي الأنثى: جسد ورماد، قصور وخرائب، حياة وفناء.

من سوء حظ الرجل أو من حسن حظه أن الجمال كله كان ولم يزل في جسد المرأة وليس في أيّ شيء آخر في العالم، ومن سوء حظ الرجل أو من حسن حظه أنه لا يستطيع التخلص أو الفكاك أبداً من أثر هذا الجمال السحري للمرأة!

 

* الغربة ليست في نظري غربة أوطان بل هي أكبر من ذلك بكثير. كيف تقرأ سنوات غربتك؟ وكيف تعرف  الغربة؟

- أعاني من أنواع عديدة من الغربة، وليست الغربة المكانية بأولها على أية حال!

 والغربة الإنسانية كما أعتقد أكبر من الغربة المكانية دون شك. وهكذا تبدأ غربتي، كإنسان وكشاعر، بتعبير حروفي،  من غين الغربة ولا تنتهي بتائها المربوطة!

 لقد كنتُ مغترباً وأنا أعيش حتى وسط الوطن، ووسط المجتمع العام والخاص، ووسط النخبة الثقافية التي ما أن حاولت الاندماج معها حتى اكتشفت مبكراً  صعوبة وربما استحالة ذلك لأنها تتخذ من الأيديولوجيا تحديداً لماهية الإنسان. كانت الغربة بمرور السنين تشتدّ والثمن الذي أدفعه لكي أبقى حياً وسط حروب مدمرة وحصارات وحشية وتهميش إعلامي وثقافي غالياً. بعبارة أخرى، كانت الغربة داخل الوطن عذاباً حقيقياً لم يعرفه الاّ القلّة من الذين اختاروا معي صفاء الكلمة وشظف العيش وارتياب الآخر وتشكيكه وتهميشه بدلاً من مسخ الموقف والاندماج  بالمؤسسة. وما أن وصلتُ إلى أستراليا حتى بدأت غربة أخرى تطلّ برأسها:إنها غربة اللغة. ولحسن الحظ فإنني قد أعددت نفسي لها إعداداً جيداً حيث درست الأدب الانكليزي بكلية اللغات بجامعة بغداد في التسعينات. لكن الغربة كما اكتشفتُ ليست لغوية بل أوسع من ذلك،إنها حضارية، وهي غربة تقوم، في الغالب، على اصطدام الحضارات والثقافات. وأنا القادم من الشرق الفقير المحبَط هو مَن سيكون نقطة اصطدام الشرق بالغرب !بالطبع هناك، قبل هذا كلّه، غربة الإنسان في هذا الكون. إنها الغربة الأقسى. هي غربته  وهو يحاول عبثاً فكّ طلاسم الموت: الوجه الآخر للحياة. هي غربة تطلق شرار الشعر فيَّ أبداً، وتدلّني، منذ كتابتي لقصيدتي الأولى وحتى الأخيرة، على انحسار الأمل لا انحسار السؤال. هذه الغربة هي رديف عظيم للسؤال الشعري، رديف يتبعني كظلي!

 

الرواية والشعر

 * قال جبرا إبراهيم جبرا الرواية فن المستقبل، هل يعني أنها وأدت الشعر؟

- لا يمكن للرواية ولا لأيّ جنس أدبي أو فني على الإطلاق أن تقوم بعملية وأد للشعر! فالشعر رديف حقيقي للإنسان في كل زمان ومكان. إنه صوته الداخلي السرّي الصافي العميق. إنه خلاصته وهو يواجه الموت والعبث والعجز والغربة ودوران السنين العجيب، وهو سؤاله الأزليّ الأبديّ!

إذا ما تقدمت الرواية أو تألقت السينما أو طغى التلفاز فلا بأس لا بأس! لأنّ مكانة الشعر باقية وحيّة، ولا تستطيع أية وسيلة إبداعية مهما كانت أن تسرق من الشعر مهمته المقدسة في الاستجابة لأكثر الأصوات عمقاً في داخل الإنسان: صوت الحياة السرّي وخرير مائها المقدس!                                            

* ماهي أهم الأماكن التي سافرت إليها وما الأثر الذي تركته؟

- سافرتُ إلى أماكن عديدة في العالم. وقد قادني السفر إلى التعرّف ليس فقط إلى ثقافات تلك الشعوب وعاداتها وهي عادات عجيبة ومدهشة بل إلى التعرف إلى نفسي وأسرارها وهي تنتقل من محيط إلى آخر ومن محتوى ثقافي إلى آخر.  كان السفر، باختصار، يقدم إجابة بليغة ومدهشة عن الكيفية التي يكتب من خلالها الإنسان قصيدة الحياة اليومية عبر العمل والحلم والتأمل.

* هل لك طقوس معينة عند ممارسة الكتابة؟

- القصيدة تكتبني أنّى تشاء! وما عليّ سوى أن أستسلم لزيارتها المباغتة وحضورها الجميل. ما أحتاجه هوالورقة والقلم فقط لكي ألوذ إلى أعماق نفسي وأتماهى مع قصيدتي الجديدة إلى الحد الذي أفقد إحساسي بالزمان وكذلك بالمكان. فإذا ما انتهت القصيدة وانسكبت روحها وروحي على الورقة، أفقتُ فإذا بالساعات قد مرّت عليّ كأنها الدقائق المعدودات، وإذا بالمكان أليفاً رغم حركة الناس وحضورهم وغيابهم وضجيجهم!

*************************

نُشر الحوار في مجلة اليمامة بتأريخ 8 – 8 – 2009  العدد 2069

 

حوار: انشراح سعدي- الجزائر

 

     

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home