محمد سهيل احمد

 

  ·  1947 – البصرة

· خريج قسم اللغة الانجليزية – كلية التربية – جامعة البصرة 69

· من النشر في الصحف المحلية بالبصرة الى النشر في الصحف البغدادية

·  1966 الفوز بإحدى جوائز الملحق الادبي للقصة القصيرة – جريدة الجمهورية –

·جنبا لجنب مع محمد خضير ومحمد عبد المجيد

· 1985 صدور مجموعتي القصصية الاولى ( العين والشباك ) في الكويت

· مهنيا عملت بالتدريس في كل من العراق – الكويت – الاردن – ليبيا ثم العراق عام 2004

   (* )   عملت في الصحافة الكويتية (  الاستطلاع المترجم –الثقافية ) من 1978-

              1990

   ( * )     الامين العام لأتحاد ادباء البصرة 2005

    ( * )    عملت بالصحافة المحلية – جريدة المنارة كخبير لغوي ، محررا اقدم وسكرتير

              تحرير تنفيذي 

   ( * )    صدور مجموعتي القصصية الثانية ( الان .. او بعد سنين ) دار الثقافة الجماهيرية –

             بغداد 2005         

 

 

  قصة

             السهم والبوميرنغ

                             محمد سهيل احمد

 

 

  



محطة حافلات المدينة.. كالمدينة نفسها ..خاضعة لقوانين
الصحراء..قلّة من الركاب حول الحافلة.. على سقفها ما يعادل ارتفاع بيت : حقائب
.. امتعة.. صرر.. حاويات ماء بلاستيكية .. صناديق زينكو.. بيضاء او ابنوسية
اللون .. مرسوم عليها جماجم.. وجوه.. رماح .. طواطم .. دروع مزركشة بطلاسم
ملونة.. ريح محلية مصحوبة بأغبرة .. كرات شوكية متدرحجة لصق رفارف الحافلة او
جدار المحطة المائل ..شمس الهجير .. ساخنة .. ساطعة .. رغم الأغبرة .. اندلاق
اغنية فرنكفونية .. مكبرة صوت ذات نغمات متحشرجة.. ايقاعات صاخبة ..كلمات من
نايلون.. مقاطع بشكل همهمات .. ثلاثة فتيان سمر بقمصان صاخبة الألوان .. رؤوس
حليقة .. قمصان مارينز .. رؤوس مشجوجة بفؤوس .. حفر .. اخاديد .. افلاج .. كل
اذن يمنى بحلق .. اليسرى بلا ..
فجأة تتحجر المرئيات ..
لوحة "ستل لايف " في قلب الصحراء !

مدى الإبصاريزيد عن مرمى حجر.. من خلف تلك الغيمة الغبارية انبجست هياكل اتخذت
هيأة شبحية لقافلة .. مكبرة الصوت تتوقف عن الزعيق .. اذ ذاك ران صمت على
الركاب بينما القافلة تدنومن المحطة .. تنجلي عن ثلاثة حمّالين محروقي البشرة
.. اثنان منهم مفتولا العضلات بينما ناء الثالث وكان هزيلا – يشبه عصا درويش
تائه- بثلاث حقائب .. انزلوا ماناءت بهم رؤوسهم من أحمال قبالة امرأة صارمة
الملامح ترتدي قميصا اسود طرز عليه اوراق داليا رمادية قاتمة على تنورة زرقاء
بينما غطت شعرها الأشقر - عدا خصلات منهـا - بمنديل بيج سادة وإنسرح طرفاه على
كتفين عريضتين .. لوحت بذراع بضة مناولة اياهم اوراقا مالية ,, لم ينصرفوا
..اقتعدوا فسحة من الأرض قريبة وعدوا نقودهم .. اقتسموها .. جففوا عرق جباههم
الناضج وغادروا المحطة ..
لم تكن المرأة وحدها .. معها صبية ذات وجه يحمل ملامح المرأة . تلك الصبية
تعدّت – في الأغلب – الخامسة عشرة من العمر . عقصت شعرا اشقر بشكل جديلة انسرحت
حاجبة نهر قفاها المقوس .. وفي معيّة المرأة غلام يضع على وجهه قناعا لأحد
محاربي ( الزولو ).. ثمة طفلة رقيقة الإهاب بين الخامسة والسابعة من العمر ما
فتئت تحوم حول امها مغردة :
:- ماما .. الى اين نحن رائحون ؟
هنيهة وتسقسق من جديد:- مى سنصل؟!

امرتهم بالجلوس على الحقائب والإعتصام بالهدوء .. توجهت لشباك التذاكر.. علا
صوت لغط .. لوّحت المرأة بإيصال .. فأدار قاطع تذاكر بدين قمرته .. دار بين
الإثنين جدال حاد .. اختتم بأن اعلن :
- آو كايو .. اربعة مقاعد ..
وهي تؤكد له بأصابعها: - اربعة مقاعد .. بلا مقالب ولا ألاعيب .. نحن اربعة
ولسنا ثلاثة .. قل هذا الكلام للسائق لئلا يطمع بمقعد ابني الصغيرة فيهبه
لعجيزة باردة مثل دمك !
اندفعت لمصطبة متآكلة الحافات واراحت بدنها عليها .. اقفل الرجل الشرقي القسمات
كتابا كان منهمكا بقراءته.. دسّه تحت فخذه . دفع بحقيبة سفره اليدوية الى اسفل
.. اشار لجهة الشرق :
- السيدة من هناك ؟
اومأت برأسها انْ نعم وهي تغمغم :
- من الحرائق نفسها !
ثم عمدت الى اغتيال ابتسامة على فمها المزموم . سألها :
- وماهي وجهتك ؟
- انا ذاهبة لأقصى الجنوب .. لعلك ذاهب الى الجهة ذاتها ..
- غير معقول..
- ماذا تعني ؟
- لا شيء.. انا ذاهب بالإتجاه المعاكس ..
- معنى ذلك انك قادم من قلب القارة ..
- تقريبا ..
- وعندك فكرة جيدة عن الطريق ..
- ليس تماما .
- لست افهم..
- لم اتبين الدرب على ما ينغي ان يكون..
- لا تقل انك قضيت الوقت نائما..
- قطعا لا .. لكنني ما زلت افكر بحكايتك .. هل انت ذاهبة لجنوب البلاد ؟
- لأقصى ما في الجنوب من جنوب !
- رأس الرجاء الصالح ؟
- تماما ... !
- ولكن هذا مفزع ... من سيرعاك هناك . ؟
- الله وربما ال
UN ..
- غير معقول .. امرأة وثلاثة ..
- توقف عن وصفي بكلمة امرأة .. انا رجل بإهاب امرأة ..
- عفوا .. افهم ان لديك اصرارا على المضي الى آخر المطاف .. ان من يراك وانت
بهذا الإصرار يحسبك هاربة من انقلاب فاشل او من زلزال.. انها رحلة انتحارية ..
- لتكن .. هل ستكون اسوأ مما مر بنا ؟
لفّها الصمت لبضع دقائق .. نشرتْ على المصطبة خارطة تحت اصابع رشيقة ذات اظافر
شذبت بعناية .. اشارت لدائرة سوداء :
- لا بد اننا هنا .. ألسنا كذلك ؟
- تماما..
- بأية نقطة حدود سنمرّ "اوزو " أم " اوزي " ام " بئر الوعر " ؟
- اين ؟ انت تشيرين لجهة الشرق .. في الأغلب ستخترقون " اوباري " "غات " أو
... لكنهما بعيدتان عن خط الحدود . من الضروري ان تعلمي ان هذه الحافلة لن
توصلكم لنهاية المطاف ...
- اعلم ذلك ..
- سيم استبدالها بشاحنة مكشوفة حيث سيقذف بأمتعة مهملة او صرر ثياب الى حوض
ينوء بمختلف اصناف البضائع : بطانيات , مقاعد , صناديق المنيوم ,غالونات ماء
بلاستيكية بالمئات تتدلى من جهتي الحوض وستجلس شمس بجواركم طيلة نهار مضجر ..
شمس كاوية وذباب ..
- كلا ..سندفع مبلغا اضافيا لنكون في الكابينة جنبا لجنب مع السائق ..
- ستكونون كمن يحشر في علبة سردين ..
- ولو .. ما عليك منا .. حدثني بالمزيد عن الطريق فأنت قطعته ذهابا وإيابا ..
- لم اعد من الطريق نفسه ..
- حدثني عن رحلة الذهاب ..
- بعد مسيرة يوم في فيافٍ ما لها حدّ ؛ ستتوقفون بواحة " غرو " .. ستغترفون ماء
عذبا لا لأنه عذب حقا بل لأنكم ستصلون متخشبي الشفاه من عطش .. ولربما مررتم
بعد ذلك ببوابات وهمية من صنع قطاع طرق ..
- هل تحسب انك بهذا الكلام تثبط عزيمتي ؟
- عفوا .. انا انقل الواقع ... ومن " غرو " الى " فاية " .. وبها كما اظن مطار
صغير ..
- كيف تسنى لكم عبور الحدود ؟
- بشقّ الأنفس .. قبل ان نصل لنقطة الجسر انحرفت بنا الحافلة الى مكان قريب
..لبثنا هناك ننتظر طيلة الليل .. ثم عبرنا مياها زاخرة بالتماسيح تحفُّ بنا
صرخات طيور .. لكن اسمعي .. ان الدرب الى " ياوندي " بعيد بعيد ..
- كيف رأيت " ياوندي " ؟
- جميلة حقا .. لكنني لم اكن بوضع يتيح لي ان استمتع بجمال المدينة .. لكن ماذا
عنك يا سيدة ؟
- لقد اخبرتك ان نهاية المطاف بالنسبة لنا هي رأس الرجاء الصالح .. ومنها سنركب
سفينة .. ما اريده الساعة بالضبط هوان تحدثني بالمزيد عن يا وندي..
- لم يتح لي ان اعرفها عن كثب .. كنا ثلاثة بالأصل وكان الإتفاق ان نطلق صيحة
واحدة امام مكتب الأمم المتحدة .. لكن اقوالنا تضاربت هناك ..
- ماذا ؟ اقوالكم ؟ هل كنتم مخمورين ؟
- كلا .. ولكن صاحبنا الثالث بدا اشبه بالمنهار عصبيا . اما عن " ياوندي " فهي
مدينة جميلة .. مدينة كاكاو .. نخيل . زيت .. ولكنها ليست على الساحل
الكاميروني تماما .. نحن لم نبصر البحر ..
- تتحدث كمعلم جغرافيا..
- انا معلم تاريخ ..
- ما غايتك من الترحال ؟
- الوصول الى نقطة كي اتوقف عندها .. سان باولو .. بوينس آيرس .. هذه مجرد
بدائل ..
- لم تأخذ الهجرة على نحو جدّي .. هذا دأب المدللين ..
- كلا .. لم اكن .. ولست ..
- هل خدمت بالجيش ؟
- كلا .. دفعت البدل النقدي ..
- ألم اقلْ لك ؟!
- انه شكل من اشكال النوستالجيا .. او الحنين للوطن .. الواقع انني كنت اروم
العيش في بلاد البوميرنغ ..
- البوميرنغ ؟
- او بألأحرى بلاد الكنغر ..
- آه .. طبعا .. البوميرنغ .. سلاح يشبه المشط لكن بدون اسنان يستخدمه السكان
المحليون لصيد طرائدهم ..
- بالضبط .. ينقذف بعيدا .. ويرتد لصاحبه .. مثلي تماما .. لو اردت الفارق بدقة
.. انا عبارة عن بوميرنغ بشري قذفته يد قدر عابثة دون ان يطال ايما طريدة ..
وها انا ارتد الى حيث تقاذفني ايد اخرى ..
- جلاد نفسك انت اذن ..
- من هذا وذاك.. اسباب نفسية بالأصح ..
- ماذا تعني ؟
- نكوص ..
- نكوص ؟! اي نكوص تتحدث عنه ؟ انه ارتعاد ..هل تعرف من انا ؟ انا طبيبة اطفال
.. سنوات وانا اعيش تحت مطارق الحصار . شهدت رحيل عشرات الأطفال . من النادر
ان تمر ليلة دون ان تصادفني حالة وفاة او تشوه بمستشفى المدينة الكبير .. دحرني
احباط مرير .. انهم يتاجرون بآلامنا .. كان بقائي ضربا من الجنون .. ألححت على
زوجي ان نهاجر فرفض الفكرة .. الحفت عليه ..احطته بدقة حالتي ..اخبرته بأنني
على وشك ان اصاب بإنهيار عصبي وانني ساعية لا محالة الى جنون فلم لا نجرب معا
جنونا آخر هو جنون الرحيل ؟! انه جنون حديث الطراز .. رائع وغير مسبوق . اخيرا
لانت ازاء اصراري عزيمته اذ ادرك خطورة حالتي .. تقدم بطلب للمعاش لأسباب صحية
فناله في غضون شهر بعد ان دفع رشوة كبيرة .. سبقته الى مغادرة البلاد وبرفقتي
الأبناء على امل ان يصفّي اعماله ويلحق بنا .. وردتني برقية تقول بأنه على وشك
بيع البيت وبأنه قادم في غضون عشرة ايام .. انتظرته على مضض. كنت اعد الساعات
وانا جالسة على جالسة على مصطبة كهذه في محطة النقل البري .. وردت برقية تتحدث
عن مصرعه على ايدي مجموعة من اللصوص بعد ان هربتْ بالمبلغ .. تهاويت مغمى عليّ
.. مكثت في المستشفى اياما .. تمكنت بجهد جهيد من ان المّ شتات عزيمتي ..لولا
بقية من إصرار لتشظينا بوجه الريح .. قدمت لهذه البلاد بطريق البر .. ما ان
حطّت قدماي على رصيف اول ميناء حتى وقعت انا نفسي ضحية لحدث سطو .. نتشوا
حقيبة يدي وكانت تضم ّ ما تبقى مما املكه من مال وراحوا يتلقفون الحقيبة فيما
بينهم وانا اطاردهم من حاجز جمرك الى حاجز جمرك آخردونما جدوى.. لدى وصولي الى
اول مدينة ساحلية بهذه البلاد غادرت الحافلة حيث اقرباء لي .. اقمت لديهم اياما
اضطررت خلالها الى ان اقترض مبلغا يفي بنفقات رحلتي هذه ..
- مؤثِّر جدا .. هل كنتما واثقين .. انت وزوجك من ان قراركما بالهجرة كان
صحيحا .. ؟
- الحقيقة ان الأسباب لا تؤرقني حاليا ولم ارحل تلبية لنزوة او جريا وراء موضة
.. المهم ان اتدبر لما انا فيه الساعة .. لست املك اي خيار آخر.. هل تملك انت ؟
- صراحة .. لا استطيع ان افكر بالنيابة عن غيري ..
سألتني غبّ سحابة ظللت محيّاها المرهق الجميل :
- هل ثمة فارق بين الجنون واللا معقول ؟
- لا اعرف .. ماضية انت كالسهم .. !
- و مرتد انت كالبوميرنغ !
هبّت ريح اشد اندفاعا غارزة رماحها في مآقينا:
- هل فكرت بمعاودة الكرّة ؟
- ماذا ؟
- معاودة الرحيل .. فكّر جيدا وتذكر انك عائد لنقطة الصفر !
اندلعت صيحات حادة من بوق الحافلة .. اندفعت الإمرأة :
- يبدو ان موعد سفرنا قد أزف ..
بسطت يدا ساخنة نحوه .. صافحها. ألقى تحية خاطفة على ابنتها والصغيرين الآخرين
.. دلفوا جميعا للحافلة .. ما هي الا دقائق حتى شرعت تنوء بأحمالها مثل سلحفاة
..
من الشباك اطلت طفلة ذات غدائر شقر . لوّحت له بأصغر راحة يد وهي تهتف :
- باي باي يا عمو ..
همس قبل ان يتهاوي على الأريكة في عينيه دبابيس غبار محلي :
- وداعا ايها العقل !



بنغازي 2000

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home