صباح الأنباري

 

 

      بدأ الكتابة عام 1971 في مجلة الثقافة العراقية . 

   اعتقلته الحكومة العراقية السابقة بسبب أفكاره اليسارية المتمردة ، و أودع في معتقل مديرية الأمن العامة.

 اخرج في عامي 1975 و 1996 ثلاث مسرحيات تحريضية :  ( الصرخة ) : وهي من مسرحياته المناهضة للحرب ، والفائزة بجائزة الابداع ..( الالتحام في فضاءات الصمت ): وهي من مسرحياته الصوامت ، واخيرا( قضية ظل الحمار) ، التي لم تشأ السلطة استمرار عرضها فأوقفته بعد عرض الليلة الثانية . 

   أصدر الكتب الاتية :

1-   طقوس صامتة ....................... 2000

2-   ليلة انفلاق الزمن ................... 2001

3-   البناء الدرامي ........................ 2002

4-   ارتحالات في ملكوت الصمت ..... 2004

 

·   له نشاطات متميزة في مجال منظمات المجتمع المدني فهو عضو مؤسس في الجمعية الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان في العراق ، ورئيس للجمعية العراقية للتصوير / فرع ديالى ، وعضو في اتحاد الأدباء والكتاب وعضو متطوع في جمعية الهلال الأحمر العراقية .

·   كتب عشرات المقالات والدراسات والبحوث في مجالات القصة و المسرح والتصوير الفوتوغرافي والشعر والقصة وتوزعت مقالاته على عدد من الصحف والمجلات العراقية و العربية.

·   كتب عن أعماله الدرامية ونصوصه المنشورة وكتبه المطبوعة عدد غير قليل من المقالات النقدية والدراسات التخصصية من قبل نقاد وأدباء أمثال محي الدين زنكنه ، علي مزاحم عباس ، سليمان البكري ، و د. فاضل عبود ،و د. فائق مصطفى ،و هيثم بهنام بردى ، و تحسين كرمياني ، و ابراهيم الخياط و مشتاق عبد الهادي

 

تجليات في ملكوت الموسيقى

 

 

شخوص المسرحية

الرجل العجوز – المرأة ألام

الطفل – والد الطفل

الأمير – ضيوف الأمير

عدد من الجنود بالزي الحربي النمساوي

عدد من الجنود بالزي الحربي الفرنسي

عدد من الأشباح

 

  يرفع الستار عن الخشبة .. حزمة ضوء صغيرة على رجل عجوز يجلس وسط الظلام امام الة البيان كمن ينتظر وقوع المفاجأة بين فينه واخرى .. آلة البيان وقطع الديكور ألأخرى كلها موضوعة ضمن دائرة مرسومة بخط واضح على الخشبة مما يدل على ان الأحداث المقبلة كلها ستقع ضمن هذه الدائرة .. ينهض الرجل العجوز.. يخطو بضع خطوات جيئة وذهابا .. يتابعه ( الفلو ) الضوء المتحرك .. يجلس ثانية .. يرخي السمع لفترة وجيزة .. يفاجئه صراخ طفل ولد توا فيقف مندهشا .. يتردد صدى نواقيس الفرح في ارجاء المسرح .. يؤدي الرجل العجوز بعض الحركات الراقصة ، لااراديا ، تتساوق مع توهجات المصابيح الملونة على الخشبة وامتلاء الدائرة بالاضاءة الفضية وانطلاق موسيقى نشيد الفرح من السيمفونية التاسعة لبتهوفن ..تتوقف الموسيقى .. تدخل من اعلى وسط المسرح امراة تحمل طفلا مدثرا باغطية بيضاء .. تقف على وسط الوسط .. يتقدم الجد ( الرجل العجوز ) لياخذ منها وليدها .. يتامله .. يطبع قبلة حنونة على جبينه ثم ياخذه بفرح غامر الى آلة البيان .. يدور به ، حولها ، بطقوسية خاصة .. يجلس .. يعزف لحنا راقصا .. يستدير الى والدة الطفل .. يراها ترتجف .. يسلمها الطفل ويخرج .. يعود بقطع من الخشب يلقمها للنار واذ ينتهي يقف خلف المراة والطفل .. يتاملهما .. يتسمع وقع خطوات مضطربة .. يدخل الى المسرح رجل ثمل .. يقترب من الطفل .. ينظر اليه .. ترتسم على وجهه ملامح الفرح والحبور يسرع الى الجد يجره الى الة البيان ويجلسه امامها فيبدا الجد بالعزف السريع بينما ياخذ الرجل الثمل بالرقص فرحا مختالا متمايلا حتى يسقط ارضا من الاعياء والتعب .. تضع المراة وليدها في سريره ، وتدريجيا تختفي الاضواء او يسدل الستار .

*

        يرفع الستار .. حزمة ضوء على وسط المسرح تظهر المراة / ألام وهي تلبس ابنها،الذي صار في السادسة من عمره ، الملابس التي يرتديها ، عادة رواد الموسيقى ..تضع الباروكه على راسه .. تتناول سلة التبضع وتخرج مودعة الصبي باشارة وابتسامة .. يتبعها الصبي .. يقف عند حافة الدائرة قريبا من الكواليس .. يتطلع في اثرها واذ يطمئن لابتعادها يعود بخفة ونزق ليجلس امام البيان .. يعزف الحانا خاصة به .. يتوقف عن العزف فجاة اذ يسمع وقع خطوات تقترب .. يرجع الكمان الى محله .. ينظر باتجاه الصوت ثم يهرع الى فراشه يمتد عليه مغطيا نفسه ومتصنعا النوم العميق .. يدخل الاب ، وهو الثمل نفسه في المشهد السابق ، ينظر الى الة البيان ثم الى الكمان ثم السرير .. يلتقط عصا المايسترو من على البيان .. يقترب من السرير .. يزيل الغطاء من على الصبي بطرف العصا .. يشير بطرف العصا .. يشير عليه بالنهوض .. ينهض .. يشير له بالذهاب الى البيان .. يذهب مترددا خائفا يبدا العزف باشارة من عصا ابيه وباشارة منها يتوقف الاب عن العزف ثم يبدا ثانية وثانية يوقفه .. يعزف مرة ثالثة .. تبدو على الاب امارات الراحة فيخرج مغادرا .. يختفي وراء الكواليس .. يطل براسة ليتاكد من سلامة سلوك الصبي .. ينسحب .. يذهب الصبي في اثره .. يطمئن لابتعاده فيعود الى الة الكمان يعزف عليها لحنه السابق نفسه .. تداهمه الام ، هذه المرة ، فيضع الكمان في موضعه بارتباك .. وبارتباك يتناول كتبه المدرسية .. تنحني الام عليه طابعة قبلة على جبينه .. يغادر مهرولا الى خارج المسرح .. تسير الام في اثره .. تتوقف .. ترفع يدها مودعه .. تختفي وراء الكواليس .. تطفا الاضواء تدريجيا وحزمتان من الإضاءة فقط تظلان على توهجهما لفترة على الة البيان وسرير الطفل ثم تختفيان تدريجيا ايضا .

*

        تفتح الاضواء تدريجيا .. الام في وسط المسرح جالسة امام الة البيان تحيك قفازا لولدها .. تسمع صوت خطوات مضطربة .. يدخل الاب ثملا كعادته وباطن جيوبه مسحوبة خارج بنطاله .. يقف الى جانبها .. يمسكها من ذراعها وينهضها بعنف وقوة يدفعها بعيدا عنه .. يجلس في محلها .. يضرب الة البيان بعصبية .. تتقدم منه .. تقبض على يديه .. تمنعه من تكرار الضرب العنيف لكي لا يوقض الصبي .. ينتبه .. يلتفت الى سرير ابنه .. يتناول عصا المايسترو ويذهب الى السرير .. تقف الام في طريقه محاولة منعه من الوصول الى ابنهما .. يدفعها فتتنحى جانبا .. يقف لصق السرير وبالعصا يزيح الغطاة  من على ابنه ويامره بالنهوض .. يتردد الصبي فيجره عنوة الى الة البيان .. يبدا بالعزف .. يوقفه باشارة من عصاه بعصبيه وانفعال يضربه على اصابعه ويامره بالعزف ثانية .. يعزف لحنا نشازا ايضا بينما الدموع تترقرع من عينيه .. يضربه ثانية وثالثة واذ يعزف عزفا سليما ينبهر الاب ويؤدي بعض الحركات النزقة من خلف ظهر الصبي .. يتوقف لحظة .. ينظر الى ولده باعجاب .. يمسك باطن جيوبه ويرجعها الى الداخل بزهو .. يضرب على كتفي الصبي فيتوقف الصبي عن العزف .. ينهض .. يذهب الى سريره بامر من ابيه يتمدد عليه .. يغطي نفسه والدموع ما تزال ترقرق من عينيه .. يخرج الاب وتطفا الاضواء تدريجيا الا حزمة الضوء التي تضئ سرير الصبي .. سوناتا (( في ضوء القمر )) بأجوائها الهادئة تستمر لفترة قبل ان تدق نواقيس الكنيسة دقات استغاثة ممزوجة .. بالصرخات البشرية المفزوعة واصوات تهدم الجدران او سقوط السقوف وفرقعات النيران .. ينهض الصبي وتدخل المراة مهرولة مفزوعة تاخذ الصبي الى النافذة وترى الى خارجها . وهج نيران الحرائق تسطع على الخشبة وعلى وجهي الصبي وامه .. تزداد الاصوات والفرقعات .. يتحركان باضطراب وخوف ورعب .. يزداد وهج النيران .. على منطقة خيال الظل يتسارع الناس نحو الحريق وهم يحملون اوعية الماء .. يحاربون النار .. ينسحبون امامها .. تستمر اجراس برج الكنيسة لبرهه قبل ان تتمكن منها السنة النيران وتسكتها نهائيا .. واذ يسقط البرج تخمد الحركة تماما .. الصبي ينظر صوب المكان البرج والاجراس بمرارة والم وحزن دفين .. يبدو وهو ينظر الى هناك مع امه مثل تمثال عملاق نصب على خرائب واطلال .. يتحرك الصبي حركة تصاحبها ( سوناتا في ضوء القمر ) يدور حول محيط الدائرة مفكراً .. يتوقف عند الة البيان .. يواصل الدوران .. يتوقف قرب سريره .. يلتقط الة الكمان ويعزف عليها لحنا هو اقرب الى التنويمة منه الى أي شئ اخر .. يترك الالة غير راض عن اللحن ويتوجه الى الة البيان مرة اخرى .. يضرب عليها ضربات تشبه ضربات الاجراس المستغيثة ثم يسترسل مع اللحن لفترة قبل ان يتوقف ويستدير نحو خيال الظل الذي ظهرت عليه الفرقة الاوركستراليه .. يقف .. يتناول عصا المايسترو .. يعطي الاشارة للفرقة فتبدا بالعزف لفترة قبل ان يحس بضيق جراء الباروكة على فروة راسه فيرفعها بعفوية وبراءة ويحك راسه باطراف اصابعه التي حشرها تحت الباروكة .. تتوقف الفرقة عن العزف .. وتتعالى اصوات الضحكات .. يعود للعزف دون ان يفكر بالاعتذار يلتفت عدة مرات الى الفرقة التي لم تعد تشاركه العزف فيضرب على البيان بقوة محدثا صوتا حادا ويقف غاضبا منفعلا .. تختفي الفرقه من على خيال الظل .. يذهب ، متضايقا الى سريره .. يدخل الاب ويقاطعه في منتصف الطريق بين البيان والسرير .. يحشر يده في جيوبه ويسحب بطانتها الى خارج بنطاله بعصبية وهو يتقدم من الصبي بانفعال وغضب .. يتراجع الصبي امامه .. يعود الى الة البيان .. يجلس .. يلتقط الاب عصا المايسترو .. يرفعها الى الاعلى ومع ارتفاعها تتوقف الحركة على المسرح بينما تنطلق كونشرتو البيان الاول لبتهوفن لفترة وجيزة قبل ان تطفأ الاضاءة تدريجياً على خشبة المسرح .

*

قبل ان تتوهج الاضاءة تدريجياً ، على المسرح نسمع صوت قاطرة بدأت تتحرك منطلقة مندفعة نحو هدفها .. تضاء الخشبة فنرى الصبي نفسه جالساً في المكان نفسه وقد تقدم به العمر حتى بلغ الخامسة و العشرين وقد ازيلت الدائرة المرسومة على الخشبة و اختفت بعض قطع الديكور و حلت محلها قطع اخرى من الاثاث الفخم الرئاسي .. يدخل عدد من الضيوف بهندام بالغة الاناقة يوحي مرآهم بانتمائهم الارستوقراطي .. يترك الشاب محله و يقف الى جوار مجموعة من المدعويين واذ يكتمل عدد الضيوف يزعق صوت البوق معلناً عن وصول الامير .. ينقسم الضيوف الى كتلتين احداهما على يسار المسرح و الاخرى عل يمينه وعند ظهور الامير من اعلى وسط المسرح تنحني المجموعتان ويمر الامير بينهما بمرونة و رشاقة .. يشير لهم برفع رؤوسهم وشرب انخابهم .. يجلس فيجلسون .. يتبادلون النظر بعضهم مع بعض.. ثم ينظرون جميعاً الى الشاب الذي تنحى بعيداً ليجلس على اريكة معزولة منفردة غير مبال بنظراتهم .. يخطو بضع خطوات صوب الشاب .. يمد له يده .. ينهضه ويأخذه باحترام جم الى آلة البيان وسط تعجب الضيوف من تواضع اميرهم امام شخصية الشاب ..يعود الامير الى محله .. يجلس فيجلس الجميع .. يرفع الشاب يده الى الاعلى فتتوقف حركة الضيوف .. يبدأ الشاب مع الفرقة الاوركسترالية عزف كونشرتو (الامبراطور) لفترة قبل ان نسمع اصوات القذائف التي اخذت تتداخل مع مثيلتها في الموسيقى وهي تقترب بدويها الهائل من المكان شيئاً فشيئاً .. يصاب الضيوف بالفزع و يتحركون باضطراب هنا وهناك .. يظلم المسرح عدة مرات خلال دوي القذائف وانفلاقها ويخرج البعض منه مهرولاً .. يقتحم المكان عدد من الجنود بالزي الحربي الفرنسي .. ينتشرون على الخشبة وهم يرفسون بعض قطع الديكور .. يفتشون هنا وهناك .. يجدون بعض الاشخاص المختبئين .. يخرجونهم من مخابئهم بالركلات .. يوقفونهم صفاً واحداً في مواجهة جمهور النظارة ويفتحون عليهم النيران .. يجلس الجنود الى الموائد التي كانت معدة لضيوف الامير يهم .. بعضهم بالعزف على البيان باستهتار .. بعضهم يرقص بنزق بينما يقوم البعض الآخر بحركات ماجنة وهم يرفعون بعض الاكسسوارات النسوية التي تركت على الموائد واذ يبدو عليهم التعب و الارهاق واضحاً .. يلقون بانفسهم للنوم على أي شيء .. تخفت الاضواء قليلا ويسود المسرح الهدوء ثم وكالصاعقة ينقض عليهم عدد من الرجال ، بالزي الحربي النمساوي ، يباغتونهم ويفتحون النيران عليهم فيردونهم قتلى ومع مارش الحداد الجنائزي من الحركة الثانية للسيمفونية الثالثة ، يجرون جثثهم الى خارج المسرح و كذلك معداتهم العسكرية.. تطفأ الاضواء .

*

        نسمع ، من خلال الظلام ، صوت تصفبق حاد لجمهور متحمس .. حزمة ضوء دائرية رأسية تتوهج على الشاب وهو يقف على دكة دائرية في وسط الوسط مرتدياً ملابسه نفسها (ملابس المايسترو) ورافعا يده الى الاعلى ليعطي الاشارة للفرقة السيمفونية ببدء العزف .. تبدأ الفرقة عزف سيمفونية بتهوفن الثالثة (البطل) .. يستمر العزف على الخشبة .. يظهر خلف الفرقة خيال شبح يهيمن على خلفية المسرح بحركاته الشيطانية .. ينسحب ليظهر مرة ثانية ، يتوقف الشاب عن قيادة الفرقة اذ يختلط مع الموسيقى صوت صغير حاد او ازيز قوي ثم يستأنف عمله بدقة .. يدخل الشبح من يمين المسرح دون يلفت انتباه احد .. واذ يمر بالشاب (المايسترو) يتوقف الشاب عن القيادة .. يضغط براحتيه على اذنيه معتصراً نفسه من الالم بينما يأخذ الصفير او الازيز بالارتفاع اكثر فاكثر . واذ يغادر الشبح من يسار المسرح ينقطع الازيز او الصفير ويرفع الشاب راحتيه من على اذنيه و يبدأ القيادة مرة اخرى  .. تطفأ الاضواء على الفرقة .. وحده الشاب يضل ضمن حزمة الضوء الدائرية .. يدخل الشبح من يسار المسرح فيبدأ الصفير او الازيز بالارتفاع ثانية وثالثة ورابعة .. يضع الشاب راحتيه على اذنيه ويضغط عليهما وهو يتلوى من الالم .. يدور الشبح حول الشاب .. يؤدي حركات شيطانية ثم يخرج من يمين المسرح .. ينهار الشاب يلملم بعضه ويرقفص على نفسه متهالكا غير مصدق ما حدث له .. ينهض .. يلتفت الى الة البيان .. يقترب منها .. يضربها باحدى يديه بينما يضع الاخرى على اذنه .. يتسمع صوت البيان .. لا يعطي رد فعل السماع .. يضرب بقوة اكثر ولا يسمع .. يضرب اقوى ولا يسمع .. يقف مستقرا خائفا غاضبا يتحرك هنا وهناك بعصبية وهستيريا .. يجلس .. يقف .. يقترب من البيان .. ينظر اليه .. يضع رأسه على حافته ويبكي .. يسمع صوت نقرات لطائر نقار الخشب .. ينتبه .. يضع يده على اذنه .. تستمر النقرات .. يبتسم ابتسامة غير اكيدة .. يقترب من الكواليس .. تستمر النقرات .. يقلدها بحركة من اصابعه وكأنه يعزفها على البيان .. يتوقف النقر .. يقترب من البيان .. يعزف مقلدا النقرات وهي نفس النغمات الاربع التي تبدأ بها الحركة الاولى من سيمفونية بتهوفن (القدر) .. يتوقف عن العزف .. يتناول مجموعة اوراق ويكتب عليها نوتات سيمفونيته الجديدة .. يظهر الشبح على منطقة خيال الظل .. يتوقف عن الكتابة .. يتحرك الشبح حركات شيطانية بينما يتلوى الشاب قليلا ثم يقاوم .. يقاوم بشدة .. يتمكن من السيطرة على نفسه .. يعود الى اوراقه .. يستأنف الكتابة .. يتوقف ..يتسمع صوت اللحن الذي دونه معزوفا من قبل فرقة سيمفونية .. يشتد العزف في ذهنه اكثر فاكثر في ضربات متتالية وشديدة .. يتلوى الشبح كما كان الشاب يتلوى من قبل .. يعتصر نفسه وينهار .. يقفز الشاب بفرح غامر ويتوجه الى البيان .. يتناول عصا المايسترو وينتقل الى الدكة الدائرية التي في وسط المسرح .. يرفع يده كأشارة لبدء العزف .. تعزف الفرقة في منطقة خيال الظل قدرية بتهوفن الخامسة .. وعندما يهدأ العزف ينهض الشبح يهرب نحو الكواليس ليعود ثانيا مع شبحين اخرين يشبهانه تماما .. يدورون حول الشاب .. يؤدون رقصة (القدر والمداهمة) فيتوقف الشاب عن القيادة .. يضغط اذنيه براحتيه ويتلوى .. يقاوم .. يقاوم اكثر من المرات السابقة .. يسيطر على الامه .. يقطع الاشباح الثلاثة رقصتهم .. ينظرون الى الشاب بتعجب واستغراب وهو مستمر بقيادة الفرقة بضربات شديدة وعنيفة .. يبدأون بالتلوي والتمايل .. يتساقطون الواحد اثر الاخر .. يزحفون هاربين الى خارج المسرح .. يستمر العزف لبضع لحظات يشعر خلالها الشاب بالنصر والزهو .. يعطي الاشارة بالتوقف .. تتوقف الموسيقى .. يستدير نحو جمهور النظارة .. ينحني لهم باعتداد .. تنطلق اصوات التصفيق الحاد بينما تسدل الستارة عليه مرتين.

  بعقوبة 2000

  

 الصرخة أو تمرين مسرحي

                                             الشخصيات

1       ــ الممثـل

2       ــ المخرج

3       ــ الطبيب

4       ــ  الام

5       ــ  الجنود

 

                         [ تتوسط القبو دكة مدرجة ، تشبه قاعدة تمثال أفقية ، يتمدد الممثل عليها .. المنفذ الوحيد للقبو بوابة صغيرة على الجدار الأيسر عند أعلى يسار الخشبة . يوصل بين البوابة و أرضية القبو سلم قصير بدرجتين أو ثلاث . المخرج يتقدم ، من بين جمهور النظارة ، الى حافة الخشبة الأمامية .. ينادي على فريق العمل معلنا بدء التمرين الأخير للمسرحية .. ]

المخرج : (( بأمر )) الممثل على الدكة (( يأخذ الممثل محله على الدكة فيتمدد عليها )) فريق العمل تهيأ (( يستدير الى الخلف .. يرفع رأسه قليلا ليواجه منفذ الإنارة ))

             الإنارة .. ابدأ تدريجيا بعد بدء الصرخة .. حاضر ؟ .. إظلام .. (( يظلم المسرح تمام اكشن (( تنطلق من خارج المسرح صرخة نسوية عالية ))

صوت الام : لا .. لا تغلقوا باب القبو عليه (( الضوء الوحيد الداخل من بوابة القبو يأخذ بالانحسار تدريجيا مع غلق البوابة وصريرها )) ولدي مازال حيا       (( إضاءة تدريجية مركزة على الممثل )) ولدي ما زال حيا يا ناس .. حيا .. يا ... (( يختفي صوتها تدريجيا حتى لا يكاد يسمع من قبل جمهور النظارة ))

     الممثل    : (( يبدأ بالاستيقاظ . يجلس ببطء . يرى الى الأشياء التي تحيطه ببرود )) أظن  أني سمعت صرخة أمي مرة أخرى ، تنطلق من الفراغ .. الى أعماق نفسي المسكونة بالموت .. ترى أهي صرخة حقيقية أم مجرد وهم .. وهم وحسب  (( صمت )) من أين لي أن اعرف وأنا هنا وحدي، مع هذه الأشياء الباردة..ودون أن تكون لدي القدرة على ضخ الدفء أتليها لتعترف ، أمام الجميع ، وتشهد أنها سمعتها مثلي .. إنني محاط بهذه الجدران الصماء التي تحول المكان الى قبو رطب تتطاير من مساماته الروائح النتنة ولا تسمح بدخول الصوت الي (( يتوقف مفكرا )) أقلت أنها لا تسمح بدخول الصوت الي ؟ (( حائرا )) ولكني سمعتها وهي تخترقني كما تخترق قطرة ماء قطرة أخرى .. (( صمت )) تصوروا .. إنني أقنع نفسي ، أحيانا ، أنى سمعتها ممتزجة مع الصرخة الأولى لي وأنا أغادر ظلام الرحم الى نور الحياة .. وفي أحيان أخرى .. لا أقتنع بأي شيء على الإطلاق .. لهذا عرضت نفسي على طبيب نفسي .. قال الطبيب (( يقلد صوت الطبيب أو يسمعه دون أن يراه .. أو يحاوره كخيال ظل )) ها .. حدثني بالتفصيل عن أغرب ما سمعت أو رأيت .. وحين حدثته قال :

  ـ        انك تتوهم كثيرا

الممثل     : وكيف يتوهم الإنسان ؟

  ـ        حين يصبح خياله أوسع من واقعه بكثير

   الممثل     :ها ها ها ها ... (( امرني بإشارة منه ، بالتوقف عن الضحك ))

  ـ        ابتلع ضحكتك وإلا اعتبرتك مجنونا

الممثل      : يا سيدي ..اعتبرني أي شيء .. فقط امنعها من اقتحامي على الدوام

            (( صمت الطبيب وحدق في وجهي طويلا ثم قال ببرود ))

  ـ        انك مصاب بداء الصرخة

الممثل      : داء الصرخة ! ؟ .. اهو مثل داء العظمة ؟ ((صمت الطبيب وحدق في وجهي      ثانية وقال بالبرود نفسه ))

  ـ         بل هو مثل داء الارتكان .. هم .. الان حدثني عن نشاطاتك .. طبيعة تلك النشاطات .. أتحتاج الى أوامر ..    الى صراخ مثلا

الممثل      : نشاطاتي تحتاج الى كل هذا وذاك .. فأنا أمارس نشاطي ممثلا في فرقة ((   يذكر اسم الفرقة التي تقدم المسرحية )) .. التمثيل ، يا سيدي ، نشاط حيوي لذيذ يشعرك بوجودك .. ويمنحك فرصة إثبات ذلك الوجود .. شخصيا .. لم اشعر يوما ، ولو للحظة واحدة ، انه نشاط متعب أو ممل .. لقد عشقته عشقا أثار حسد زملائي وجعلهم يتقولون علي ويتهامسون ظنا منهم أنني ادعي حب هذا الفن .. وأنني أبالغ في حبي وتمسكي بخشبة المسرح .. صدقني يا سيدي .. أنني لا اشعر بكينونتي إلا حين العب دورا مهما عليها .. أو ارقص ، أحيانا حين اشعر بحاجة كبيرة للتعبير عن ذاتي .. تماما كما يفعل ( زوربا ) في كل مرة يحتاج فيها الى التعبير عما يريد وعما لا يريد وطوال رحلتي مع الخشبة لم اشعر ، ابدا ، بالسأم او الضجر ..ولكني في هذه المسرحية بالذات.. سئمت كثيرا مقاطعات ( يذكر اسم المخرج ) لي .. وهو مخرج المسرحية .. لقد تعود هو الآخر  على الصراخ ..

            (( الممثل يقوم بأداء دور المخرج ))

  ـ           .. stop  .. توقف

الممثل       : أتوقف ؟ ! أتوقف لماذا ؟

  ـ         لماذا ؟ .. بسبب أدائك طبعا

الممثل       : ولكني أجسد لك الدور بطريقة لم يسبق أن جسده ممثل على خشبة هذا  المسرح 

  ـ         اتسمي هذا تجسيدا ؟
الممثل       : ماذا اسميه إذن

  ـ         هذيانا .. أو ثرثرة .. أنك تقدم تمرينا أخيرا للمسرحية general prova  هل تفهم   ما يعني الـ general prova  (( الممثل لا يجيب )) يعني .. أن في الصالة الان جمهورا انتقيناه ليحدثنا ، فيما بعد ، عن عيوب   المسرحية

الممثل      : ليس هذا غرض التمرين

  ـ         (( متهكما )) وما غرضه يا أستاذ

الممثل      : غرضه تهيئة الممثل نفسيا وبدنيا للعرض أمام الجمهور المسرحي .. أما العيوب التي تتحدث عنها فيفترض انك تجاوزتها خلال التمرينات السابقة

  ـ         (( غاضبا )) هل أنا مخرج المسرحية أم أنت ؟

الممثل      : بل أنت

  ـ         إذن .. دع النقاش وأبدا العمل حالا .. ولا تنس .. أن ليس لهؤلاء الناس من الوقت ما يكفي لإضاعته في الاستماع الى هذا الجدال العقيم .. هل أنت جاهز الآن ؟

الممثل       : جاهز

  ـ         الموسيقي جاهز .. العازف مع الإضاءة ابدءوا مع الصرخة (( صمت قصير : Action .. اكشن (( نسمع من خلال الظلام صرخة نسوية عالية موسيقى رقصة الساس العربية .. الممثل يؤدي حركات الافتتاح ، وهي حركات تعبيرية بطيئة يبدو الممثل خلال أدائها حزينا وهو يتحدى الخصم ، الذي يفترض أن يؤدي الرقصة قبالته ، بنظراته الثابتة . يا ( يذكر اسمه ) .. الرقص تعبير عن الفرح الإنساني .. أنك بهذا الأداء تجبر المشاهد على ذرف الدموع .. الآن .. أبدا مرة ثانية .. وليكن رقصك مفرحا جدا (( مقلدا صوت المخرج )) الموسيقي جاهز .. إظلام  Action  .. اكشن .. (( موسيقى إيقاعية .. الممثل يؤدي رقصا تعبيريا . حركاته تنم عن التحدي والصراع والزهو .. صوت المخرج يوقفه من خارج المسرح أو من خيال الظل ))

  ـ  stop    .. توقف .. من أين جئت بهذه الحركات والإشارات .. أهذا ما دربتك عليه طوال المدة السابقة ؟

الممثل      : نعم . ولكني لم أتوصل الى جوهره إلا الآن

  ـ         إلا الآن ؟ !! في يوم العرض !!

الممثل      : هذا ليس يوم العرض يا أستاذ ( يذكر اسم المخرج ) إننا ما زلنا نؤدي تمرينا .. تمرينا مسرحيا ..

  ـ        انك حقا ممثل متعب ومضجر .. لقد حددت لك شكل الرقصة واقتنعت بما حددت فلا تخرج كثيرا عما حددته لك

الممثل      : أنا لم اخرج عن شيء .. ولكني لست آلة طبيعة بيديك تديرها كيفما تشاء .. أنا ممثل .. ممثل مسكون بحب التمثيل .. ولهذا حين أطلق العنان لجسدي فانه يؤدي بالشكل الذي يراه مناسبا .. أليس الرقص فنا لغته الجسد و الإشارة والإيماءة والحركة ؟ .. أليست هذه المفردات أبجدية هذه  اللغة التي هي أوسع واشمل من لغة الكلام ؟ .. إذن .. حين لا أستطيع أن أجسد  لك موضوعة ما أو حالة ما فإني أطلق العنان لجسدي كي يرسم في فضاء المكان صوره الإيحائية الأكثر قدرة على المواءمة مع ما أحس واشعر

   ـ        مشكلتك .. أنك متأثر جدا بذلك العجوز المتصابي انتوني كوين .. اخرج من جلد هذا المتصابي لكي تكون نفسك . تخلص من تأثيراته لتخلق شخصيتك أنت .. الآن حاول ثانية (( يصدر أمرا )) إظلام (( يظلم المسرح )) Action

             .. اكشن (( نسمع الصرخة ، مرة أخرى . الممثل ممدد على الدكة في وسط   المسرح يجلس بسرعة تتناسب ورد فعله ، الطبيعي ، لسماع الصرخة لكن الطبيب الذي ظهر بشكل مفاجئ يشير عليه بالتمدد ثانية

الممثل      : (( مفاجأ ))  .. م .. من .. أنت

الطبيب      : اهدأ يا بني .. أنت لست في العالم الآخر ، كما تظن ، وأنا لست ملاكا أو شيطانا أنا الطبيب

الممثل      : الطبيب !! .. لم جئت الى هنا

الطبيب      : لأعاين حالتك النفسية

الممثل      : هل تراني مجنونا

الطبيب      : كلا

الممثل      : إذن .. بإمكانك الرحيل

الطبيب      : ليس الآن على الأقل .. فما يزال أمامنا متسع من الوقت (( يمشي . . ثم )) هم .. حدثني عن نفسك

الممثل      : أحدثك عن ماذا وأنا مهووس كما يدعى مخرج المسرحية

الطبيب : (( بغباء )) إذن أنت مهووس ياولدي                                                                                                الممثل:(( يطلق ضحكة عالية . يتوقف عن الضحك فجأة وهو يحدق في وجه   الطبيب . يتفرسه بغضب . يتقد شيئا فشيئا . تتشنج عضلات وجهه وهو يندفع باتجاه الطبيب ثم يمسك به بقوة .الطبيب يحاول الإفلات منه . يصرخ الممثل صرخة قوية يترك الطبيب لينفلت منه   وليرتكن الى زاوية في المسرح . يضحك مرة أخرى ضحكة هسترية وهو ما يزال يحدق متفرسا في وجه الطبيب ))

الطبيب : (( يقترب منه بحذر .. يبتسم له )) اشهد الآن انك ممثل بارع ومبدع

الممثل : (( مندهشا )) كيف .. كيف عرفت ؟ !

الطبيب : إنها مهنتي أيها الممثل .. لن تنطلي اللعبة علي حتى حين تجيدها إجادة تامة ..

الممثل : حسن .. حسن جدا .. والآن اسمع يا حضرة الطبيب .. أنا أؤدي دورا على هذه الخشبة .. فابتعد عنها بهدوء ، قبل أن يتدخل مدير المسرح أو منتج المسرحية

الطبيب : لا عليك أيها الممثل .. فأنا مكلف من قبلهما لأعاين حالتك النفسية

الممثل : وما شانهما بحالتي النفسية ؟

الطبيب : انهما يخشيان من أن تكون مصابا بالمرض فعلا

الممثل : أي مرض

الطبيب : مرض الصرخة

الممثل : ولكن ذلك كان في نص المسرحية

الطبيب : وأنا الآخر .. هل كنت في نص المسرحية حين كنت تحدثني عن الصرخة ؟

الممثل : ها .. انك تحيرني يا سيدي .. هل .. هل تعتقد أني ………

الطبيب : (( مقاطعا )) نعم

الممثل : (( باستكانة )) وماذا ستفعل ؟

الطبيب :" سأعالجك طبعا

الممثل : كيف ؟

الطبيب : أن تتجاوب معي حسب .. الآن تمدد هنا (( يتمدد الممثل على الدكة )) استرخ تماما .. اغمض عينيك وحدثني بهدوء عن صرختك (( موسيقى هادئة أشبه بالتنويمة الموسيقية .. دائرة الضوء تعزل الممثل عن بقية أجزاء الخشبة )) .

الممثل : (( مغمض العينين )) عندما تسلمت أمرا بحفر خندق في موقع متقدم من جبهة القتال (( يجلس )) اصطحبت عددا من الجنود وقلت لهم وأنا أشير الى المكان (( يدخل الجنود من منطقة خيال الظل وهم يحملون المجارف . الممثل يشير لهم على المكان ويكون الطبيب خلال هذا أو قبله قد اختفى )) احفروا هنا .. كان السكون يخيم على المكان ، وكانت المدفعية في حالة استرخاء تام وكذلك الدبابات والراجمات .. حفرنا الى عمق نصف متر تقريبا ..ومع الرفسة الأخيرة للمجرفة اشرأب رأسه من التراب فجفلنا .. ربما لإحساسنا برهبة الموت .. وربما لأننا رأينا وجوهنا تنعكس على وجهه المتآكل (( صمت )) بعد أن نفضنا التراب عنه جلس قبالتنا ببدلته التي هراها الموت .. أوقفوا  الحفر (( يجلس الممثل قبالته )) ماذا تستطيع أن تفعل بي .. أو ما الذي أستطيع أن افعله بك .. انك اعزل مثلي ومجرد من كل تطلعاتك الجميلة ولا بد  انك مسكون ، مثلي ، بصرخة أمك حين اخبروها بنبأ موتك .. مؤكد انك سمعت جيدا كما سمعت أنا أمي وهي تصرخ في وجه الموت (( يسمع صرخة عالية فيغمض عينيه )) تصورا أنني أغمضت عيني .. وحين فتحتهما كان أخي ممددا الى جانبي .. فتحتهما مرة أخرى كان الآخر ممددا الى جانبي أيضا .. ومن وقتها لم استطع فتح عيني .. كنت أخشى ، دوما ،أن أراني ممددا الى جانبهما .. ومع ذلك فتحت عيني .. فتحتهما ما وسعني لأنسى رجفان الصرخة الذي يتشعب في  أعماقي مثل كومة من أسلاك شائكة .. ولحظة تلبسني الخوف وسكنني الهلع وأنا أحدق في وجهه المتآكل .. قفزت من محلي ووجهت له رفسة كادت تهشم جمجمته كلها .. صرخ الجنود بي (( يسمع صوت الجنود آت من منطقة خيال الظل ))

  ـ    لا .. ماذا فعلت .. أتمثل بميت لا حول له ليرد عليك الرفسة بالرفسة

الممثل  : انتبهت لنفسي .. خرجت من غيبوبتي وأنا أحدق في وجوههم وجها وجها .. وارى الموت في وجوههم وجها وجها .. وصرخت بهم ..احفروا الآن.. لكن دوي الهاونات طغى على صوتي وامتصه مثلما يمتص الموت رحيق الحياة (( يقاطعه صوت المخرج آتيا من الفراغ ))

ـ          ……  Stop       توقف

الممثل  : بل أنت الذي يجب أن يتوقف ويتوقف صراخك المستمر هذا فأنا لا امثل الشخصية ، على المسرح مثلما تريد أنت بالضبط .. بل أعيشها لحظة بلحظة .. لان ما حدث لها رايته يحدث لي (( الصوت لا يجيب ، فيستمر الممثل في حكايته )) ارتفع الدوي والصفير المفاجئ الذي ينذر بسقوط القذيفة قربنا .. حشرنا أنفسنا في الخندق الضيق الذي لم يكتمل بعد .. والقذائف تقترب شيئا فشيئا .. وشيئا فشيئا تنثر شظاياها من حولنا ..والشظايا تزغرد حين تدور حول نفسها بشبق جنوني .. تبحث عن فريستها .. عن الرجل الذي تخمد في جسده نارها الشبقية .. صرخت بهم احموا أنفسكم .. لكنهم لم يسمعوا (( يستمر القصف والانفجارات مدة وجيزة . يطل أحد الجنود برأسه ليرى الجحيم الذي أمامه وهو يصرخ ))

  ـ      رأسي تكاد تجن .. تكاد تجن (( تطيح برأسه شظية فتسقطه أرضا ويتدحرج مبتعدا عن جسده ))

  ـ      انه يركض خلف رأسه .. يبحث عنها حتى سـ.. (( تتداخل الأصوات ثم تتوحد في صوت واحد

  ـ      سقطت علينا قذيفة أخرى (( صمت ))

الممثل : (( يسعل )) دفنتنا في الخندق الذي حفرناه بأيدينا .. شعرت بالاختناق (( يخرج يده فقط من تحت التراب )) لم استطع أن أحرك يدي .. لم استطع أن أحرك أي عضو في جسدي (( يخرج من الخندق ليروي بشكل اعتيادي )) وإذ خمدت ثورة المدافع الوحشية جاءوا الينا .. سحبوا بعضنا خارج الخندق وجمعوا أشلاء البعض الآخر بالمجارف لان أجسادهم تشظت قطعة قطعة (( قال الذي يتقدمهم ))

  ـ    انا لله و انا اليه راجعون .. أرسلوهم الى ذويهم وليرحمهم الله

الممثل  : أنا حي أيها الوغد .. لماذا تعاملني كما تعامل الموتى .. لماذا تترحم علي .. أنا لم أمت بعد .. وسأشهد اليوم الذي أدفنك فيه بيدي هاتين (( يعود الى دوره كراو )) لم استطع إخراج الكلمات من فمي .. حاولت مرة تلو أخرى ولم افلح (( صمت . ينهض )) وضعوني في صندوق الموتى وساروا بي الى هذا المكان على هذا النحو (( مارش جنائزي . يقلد مشية المشيعين )) صرخت بهم ماذا تفعلون أيها الحمقى .. أنا حي .. أنا لست ميتا كما تظنون ..أنا ..وطغى على صوتي صوت حزين يؤبنني (( يقلد صوت المؤبن فيتلو البيت الشعري على إيقاع مقام الركباني أو الحكيمي ))

                  كل ابن أنثى وان طالت سلامته

                                                 يوما على آلة حدباء محمول

         وضعوني هنا (( يتمدد على الدكة )) قرأوا ( الفاتحة ) ، ترحما ، على روحي الطاهرة    وغادروا باكتئاب مهيب .. أحسست بالبرد يسري في عروقي .. يجمد قدمي ثم يتقدم نحوي رويدا رويدا .. فاستسلمت له .. ورحت في إغفاءة أزلية هادئة .. تغيرت صورة الحياة .. شحبت أنوارها .. وتوارى الحلم في عالم الظلمات ..واستقر الموت في جسدي (( بصوت خفيض )) إنني ميت منذ هذه اللحظة (( ينخفض صوته اكثر فاكثر )) إنني ميت .. إنني  (( يسمع صرخة قوية مدوية فينهض مرة أخرى )) أمي .. إنها أمي .. أمي التي طالما خشيت عليها من موتي .. تصرخ ملء فمها (( تصرخ الام مرة أخرى فيضع يديه على أذنيه متألما حتى يتلاشى صوت الصرخة  .يجلس. يكمل حديثه )) هكذا صرت مسكونا بصرختها أيها الطبيب )) أيها الطبيب !! أيها الطبيب !! لماذا اختفيت في اللحظة الحاسمة .. كنت سأخبرك بكل شيء .. ولكن لا .. لا .. لتأخذ الشيطان روحك القذرة وتلقي بها في أعماق الجحيم .. فما نفعك وأنت مخادع ومخاتل مثلهم تماما ..

المخرج stop        .. توقف

الممثل  : أتوقف أيضا .. لماذا ؟

المخرج : لخروجك على النص

الممثل  : لم اخرج على النص

المخرج : بل خرجت .. و أسأت الى التزامك الخلقي .. الا تعرف ان الخروج على النص يعني       الخروج على الخلق المسرحي

الممثل  : (( محتدا )) قلت لك أني لم اخرج على النص

المخرج : ان كنت كما تدعي فمن أين جئت بهذا الطبيب الذي رحت تكيل له السباب والشتائم

الممثل  : كيف صعد الى خشبة المسرح إذن (( المخرج لا يجيب )) أنا أقول لك .. السيدان منتج المسرحية ومدير مسرحك هما اللذان سمحا له بالدخول .. أتعرف لماذا ؟

المخرج : لا

الممثل  : ليعاين حالتي النفسية

المخرج : منتج المسرحية ومديرها لم يسبق لهما ان تدخلا بما لا يعنيهما .. ثم  الا ترى إنني لم أغادر الصالة أبدا .. ها .. كيف تسنى للطبيب المزعوم ان يصعد اليك

الممثل  : لا ادري

المخرج : ألم اقل لك بالأمس انك صرت تتوهم كثيرا .. وان خيالك صار اكبر كثيرا من واقعك

الممثل  : يا الهي !! أنت تكرر الكلمات التي قالها الطبيب

المخرج : هذه كلماتي أنا يا ( فلان ) وليست كلمات الطبيب كما تزعم .. ها .. هل اقتنعت الان انك خرجت من النص الى الوهم ؟

الممثل  : (( مترددا )) أ.. أ .. أظن ذلك

المخرج : الان ارجع الى النص .. وابدأ من حيث انتهيت .. جاهز .. Action    اكشن

 

الممثل  : (( من على الدكة )) ورحت في إغفاءة أزلية هادئة .. تغيرت صورة الحياة .. شحبت أنوارها .. وتوارى الحلم في عالم الظلمات .. واستقر الموت في جسدي .. إنني ميت منذ هذه اللحظة ( يختفي صوته تدريجيا )) إنني ميت .. إنني (( يقاطعه صوت من خارج المسرح مضخما الصدى ))

  ـ      انقضى أجلك فاصمت مت مت مت

الممثل   : (( يقفز من فوق الدكة منتفضا )) لا .. لم ينقض اجلي بعد (( يتقدم الى الحافة الأمامية للخشبة )) لن تتوقف أنفاسي ولي قلب ينبض بالحنين اليها .. لن يدركني الموت وأنا ما أزال احن اليها .. احن (( يغني المقطع الأول من أغنية مارسيل خليفة ))

          [ احن..الى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي وتكبر في الطفولة يوما على صدري يوما

           واعشق عمري لاني إذا مت اخجل من دمع أمي آه .. من دمع أمي ]

الام       : (( تظهر في وسط المسرح مثل ملاك .. ملامحها غير واضحة بسبب الإنارة الراسية الخافتة .. تظل في مكانها لا تبرحه حتى ينتهي دورها . أو تتحرك حركات مدروسة من قبل المخرج لتعود الى وقفتها الأولى وتختفي بالطريقة نفسها التي ظهرت فيها )) الله .. ما اجمل صوتك يا ولدي

الممثل    : (( بدلال )) أمي .. انت تعرفين ان ليس لي صوت جميل

آلام       : بل صوتك جميل وحنون يا ولدي .. إيه كل ما أتمناه ، لنفسي ، بعد هذا العمر الطويل ، أن اسمع صوتك على الدوام .. على الدوام .. لم يبق لي من حطام الدنيا +غير صوتك الجميل

الممثل    : ومن لي غيرك يا أمي

الام       : سيكون لك غيري يوما ما

الممثل    : أمي ..

الام       : الست تحبها يا ولدي  ؟

الممثل    : اجل

الام       : وستقترن بها

الممثل    : اجل

الام       : إذن ليبارككما الرب .. وليحفظكما من كل سوء

الممثل    : لكني يا أمي ……………

الام       : (( مقاطعة )) لكنك ماذا يا ولدي

الممثل    : (( بسرعة )) لن اقترن بها أبدا

الام       : ولماذا يا ولدي

الممثل    : لأنني .. لأنني (( ينتبه لنفسه )) لا .. لا شيء على الإطلاق

الام       : لا شيء على الاطلاق ؟

الممثل    : أمي

الام       : ان لم تقل لي ما الذي يضايقك الان فسأغضب منك ما حييت

الممثل    : لا تغضبي يا أمي سأقول (( يتوقف مفكرا )) منذ قليل وأنا جالس هنا راودني إحساس غريب ومخيف

الام      : وما ذلك الإحساس يا ولدي

الممثل   : إحساس يلح علي ان .. ان .. ان أودعك الوداع الأخير

الام      : لا .. لا تفعل هذا أرجوك .. لقد  صبرت وتحملت .. أعطيت وضحيت ولكني لن اسمح ان تودعني ، انت الآخر ، الوداع الأخير

الممثل   : والأرض

الام      : أكرمتها كما ينبغي لام ان تكرم أمها (( مستذكرة )) قالوا لي ما قولك يا أم أن نحن قلنا لك أن  ابنك الأول استشهد في الحرب .. قلت هو فداء للوطن .. قالوا ما قولك أن قلنا أن ابنك الثاني استشهد في الحرب .. قلت هو فداء لكم .. قالوا وما قولك أن قلنا أن ابنك الثالث ……………  قلت لا .. لا أريده ميتا .. انه آخر من تبقى لي لأجله أعيش وبدونه لن يكون لحياتي معنى

الممثل   : لأجلك يا أمي أقاوم الموت الذي يتلبسني ، الان ، كما يتلبس الليل النهار (( يبتعد عنها باتجاه الصالة )) لاجلك لن اسمح له أن ينشب أظفاره في جسدي كما انشب أظفاره في جسدي ولديك .. لاجلك .. لن ادعه يتمكن مني كما تمكن من ابي لحظة فجعوه بولده الأول .. فلتباركيني . ولتزيحي  عني هذا الكابوس الذي احسه ، طوال الوقت ، جاثما على صدري .. أمي .. أمي .. هل تسمعينني يا أمي (( يلتفت اليها فلا يجدها )) يا الهي !! هل بلغ بي الوهم هذا الحد ؟ !

          لا .. لا .. أنا لم أتوهم .. أنا .. (( يقاطعه صوت من خارج المسرح ))

ـ        بل انك تتوهم

الممثل   : من ؟ صوت من هذا ؟ الطبيب ام مخرج المسرحية ؟ (( يتوقف عن التمثيل ، ينادي على المخرج )) يا أستاذ .. أستاذ ( فلان ) اعذرني لتوقفي واجبني أرجوك .. هل كانت والدتي هنا ؟

المخرج  : (( وهو في الصالة )) وهل سبق لي أن رايتها أو تعرفت عليها ؟

الممثل   : لكنها كانت هنا (( يشير الى المكان )) منذ برهة

المخرج  : (( غاضبا )) لم يكن هنا أي مخلوق غيرك .. ولم اسمح بالصعود الى الخشبة لأي كان .. هل فهمت

الممثل   : فهمت

المخرج  : (( مهددا )) إذن اكمل دورك دون أن تتوقف ولو للحظة واحدة .. ها .. جاهزا ؟

الممثل   : (( باستسلام )) جاهز

المخرج  : Action    .. اكشن

الممثل   : مرة أخرى أصابت المدافع و الراجمات نوبة من عصاب الحرب فانهالت علنيا بقصفها العشوائي .. واستطاعت الشظايا التي تناثرت اسفل التل ،  ثقب مقطورة الماء وقطع سلك الاتصال الرئيس فتوجب علي إيقاف نزف الماء و إعادة الاتصال .. انتظرت انفلاق القذيفة التالية .. وإذ انفجرت مدوية هرعت الى اسفل التل (( يستمر صوت الانفجار والصفير )) عضضت طرفي السلك وبرمتهما على بعضهما .. قفزت الى المقطورة فحشرت في ثقبها قطعة خشب وعدت متحاشيا الموت بقفزة أسلمتني الى .. داخل الخندق (( يمكن أن يقوم الممثل بالتمثيل الصامت عوضا عن الحوار المنطوق في عمليتي تصليح سلك الاتصال والمقطورة ثم يلتقط ، بعد أن يصل الخندق ، جهاز الهاتف اليدوي ويرد عليه بأنفاس متقطعة )) آ .. لو .. الو .. .. أ .. نا .. ما زلت .. حيا .. لم اصب بأذى . صوتي متقطع .. لأنني جريت .. بأسرع ما يمكن (( صوت انفجار مدو تتبعه صرخة قوية )) الو .. الو .. الو …………واختنق الصوت في السلك .. أطفأت القذيفة نارها في جسد الجندي الذي أحببت فخمدنا جميعا (( يمسح دمعته )) أنا والمدفعية وقلبه العاري (( يبكي بصمت . ثم )) قد لا تصدقون أن الواحد منا حالما تستقر الشظية في جسده فان شريطا من الصور المشوشة تمر بسرعة هائلة أمام ناظريه .. صورة الام .. الحبيبة .. الأولاد .. الجميع تترى صورهم على ذلك الشريط بلا توقف .. ها .. تذكرت .. عندما جرحت في المرة الأولى فان أول صورة حضرتني هي صورة أمي .. وعندما جرحت في المرة الثانية لم ار شيئا لاني غبت عن الوعي .. وفي المرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة (( يسمع صوت احتجاج وعدم تصديق من قبل جمهور النظارة )) ماذا .. يبدو انكم لا تصدقون .. هل تريدون أن اكشف لكم عن جسدي حتى  تصدقوني .. أنا متأكد أنكم ستقولون أن هذا ليس بشرا .. بل قط بسبع أرواح .. وستقولون أيضا .. هذا ليس جسدا بل مجمع للشظايا . ولكنها الحقيقة .. صدقوني انها الحقيقة (( ينظر في وجوه الصفوف الأولى من المشاهدين )) لا أحد منكم يريد أن يصدق .. حسنا .. أنا لا ألومكم أبدا (( يسمع صوتا متسائلا)) لماذا ؟ لان الذين سحبوني من الخندق ، وهم اكثر معرفة منكم بكل جراحي ، لم يصدقوا إنني حي .. فكيف تصدقون انتم .. (( صمت )) حبيبتي وحدها التي تصدق إنني إنسان شبه خرافي يقاوم جراحه وموته بتفوق سحري لم يبلغه أحد من السابقين أو اللاحقين .. تصوروا أنها قالت لي مرة وانا اراقص من في الأسرة في حفل عائلي .. اما أن لك أن تهتم بجراحك يا ابن اوروك (( يتحدث وكأنه يحاور حبيبته فعلا )) أو تخافين علي من جراحي ..

  ـ      أن كانت كل حبيبة تخاف على حبيبها .. فأنا الوحيدة التي لا تخاف عليك

  ـ      (( صوت مضخم من خارج المسرح )) انقضى أجلك فاصمت مت مت مت

الممثل    : (( بتحد )) لن اصمت

  ـ      أنت ميت الان وهذا قدرك رك رك رك

الممثل    : قدري أن أحيا

  ـ      بل قدرك أن تموت موت موت موت

الممثل    : سأقاوم الموت

  ـ      وستنهار سهار سهار سهار

الممثل    : (( بتصميم )) لن انهار أبدا (( يصمت ، يفكر )) ولم لا انهار ومقاومتي مرهونة بهواء هذا القبو المغلق ها ؟ هذا يعني انهم محقون وأنني سأموت فعلا (( يصمت ، يتذكر ، ينادي بصوت منخفض أول الأمر )) أمي .. أمي . (( يرفع صوته )) أمي .. هل تسمعينني يا أمي . كنت دوما تقولين لي أن نبضك مشدود الى نبضي وقلبك مشدود الى قلبي . .قولي لهم إذن إنني ما زلت حيا .. لياتو وليفتحوا باب هذا القبو حتى لا يتمكن مني ظلامه الرهيب .. حتى لا يخنقني جوه الفاسد المميت .. حتى . (( يصمت فجأة )) ترى هل ستأتي قبل نفاذ آخر ذرة من الأوكسجين (( ينتفض إذ يحس بالموت قريبا منه )) لا .. لن أموت بهذه السهولة .. ساحيا وسأخرج من هذا المكان الموحش و سأملأ صدري بالهواء النقي .. سأعيش .. نعم سأعيش ( يصمت مفكرا )) أعيش ؟ لماذا ها ؟ لأحارب ثانية ؟ ام لأقتل ثانية ؟ (( بغضب )) اللعنة .. اللعنة على حرب لا تعرف غير القتل والدم والضياع .. أي قدر لعين ساقها الينا .. فأنزلت جحيمها الملتهب على قلوبنا الباردة .. لكنني لن أموت .. لن ادع هذا المكان القذر يحطمني..سأتحداه،كما تحديت جراحي من قبل ، فأنا على الرغم  من كل شيء ، لن ادع مكانا  كهذا يقتلني .. فقط .. أريدها أن تصل .. أن تقنعهم أنني حي .. آه يا أمي (( يتعذب )) أقنعيهم  يا أمي قبل فوات الأوان .. أنا اعرف انك تسمعينني وتحسين بما أحس وتحاولين معهم المرة تلو المرة .. ولكن الوقت يمر .. وشبح الموت يقترب .. وما أخشاه هو أن تفقد مقاومتي إصرارها بالوقوف في وجه هذا الشبح الكريه (( ينظر الى الفراغ البعيد )) يا الهي !! (( مندهشا ومستغربا )) انهما شقيقاي .. وذاك الذي يقف قربهما والدي .. ترى ماذا يفعلون هناك في عمق الفراغ الكوني (( يحدق مليا )) انهم يشيرون .. ولا اعرف الى من يشيرون .. أتشيرون علي .. أن اتبعكم ؟ .. الى أين ؟ .. الى أعماق ذاك الفراغ الرهيب (( ينتفض )) لا (( ينسحب الى الوراء )) لا .. لا يمكن .. أنا حي .. أما انتم فمجرد صور مضطربة لمخيلة مشوشة (( ينفض رأسه )) اصح اصح يا ( فلان ) .. لا تستسلم لهذه الصور الشاحبة .. تذكر ما قالته فتاتك  مرارا .. إن اظطررت للقتل فاقتل .. ولكن اقتل من ؟ وأنا لا خصم لي غير هذا الموت الذي يتعنكب حولي .. آه .. كم كرهت أن يكون خصمي لا مرئيا .. وكم تمنيت لو أنني أقابل على طريقة أسلافي القدامى حتى أرى خصومي فأجهز عليهم أو يجهزوا علي .. افضل ، ألف مرة ، أن أموت بطعنة من خصمي على أن تقتلني شظية عمياء (( يتجشأ . يحس بالاختناق )) يا الهي .. أحس أن هواء هذا القبو قد نفد تماما .. وان ما أتنفس ، الآن ، لا يعدو كونه ذرات مسمومة مشبعة بثاني أكسيد الكربون .. لقد قاومت كثيرا ولم يبق إلا القليل وتأتى النهاية المحتومة .. لا .. ليس مثلي من يستسلم بهذه السهولة .. ستصل والدتي بين لحظة وأخرى .. وستجبرهم على فتح هذه البوابة اللعينة (( يصمت . يفكر . يتعذب )) ولكنها تأخرت كثيرا .. كثيرا .. آه .. اشعر بانقباض في صدري ومعدتي .. ولا أكاد أرى بعيوني غير شبح الأشياء التي حولي .. إنني .. إنني …………… (( يغمض عينيه مستسلما للموت .. يتخذ نفس الوضع في بداية المسرحية . يسمع صرخة أمه من جديد فيصحو .. يستمر صراخها وعويلها وكأن هذا الصراخ والعويل استمرار للصراخ في بداية المسرحية .. يجلس ببطء محاولا الاتكاء على مرفقيه )) أظن أني سمعت صرخة أمي ، مرة أخرى تنطلق من الفراغ .. الى أعماق نفسي المسكونة بالموت .. ترى .. أهي صرخة حقيقية أم مجرد وهم .. وهم وحسب ..

صوت الام: أسرعوا أتوسل اليكم .. افتحوا هذه البوابة الرهيبة .. لست مجنونة كما تظنون .. إنها الحقيقة يا ناس .. ولدي ما زال حيا

الممثل   : (( يحاول الصراخ وهو يمد يده صوب البوابة .. يتجه بكليته اليها . يصعد درجات السلم بصعوبة .. يضرب على البوابة عدة مرات ))

صوت الام: (( مضخما )) ولدي

الممثل  : يتكلم بصعوبة )) أنا .. ما .. زلت حيا .. يا أمي

المخرج : (( يقفز من الصالة الى المسرح )) .. توقف .. (( يصعد الى الخشبة ))

الممثل   : أتوقف !! لماذا ؟ .. المسرحية لم تنته بعد

المخرج  : بل انتهت عند هذه الجملة .. حذفت ما تبقى من النص لاني لا أريدك أن تموت على الخشبة (( يلتفت الى الجمهور )) أعزائي الحضور .. لقد انتهت المسرحية (( تطفأ الأضواء )) .

                                              إظلام

                                      

الصفحة الرئيسية

All rights reserved

جميع الحقوق محفوظة

Home