فيصل عبد الحسن

                                                                                                 

·  كاتب عراقي مقيم بالمغرب

·   له الكتب المطبوعة : العروس – قصص-  بغداد 1986، ربيع كاذب – قصص- بغداد 1987 ، أعمامي اللصوص –قصص  القاهرة 2002 وللكاتب ثلاث روايات مطبوعة  : الليل والنهار  بغداد1985 - أقصى الجنوب  بغداد 1989 - عراقيون أجناب الرباط 1999          

* ولد الكاتب في البصرة عام 1953

* اكمل دراسته في جامعة البصرة كلية الهندسة عام 1978

*نشر أولى قصصه حين كان طالبا في الإعدادية في عام 1976

* عضو اتحاد الأدباء في العراق

*عضو نقابة الصحفيين العراقيين

يعيش خارج العراق منذ عام 1995  

* الكاتب العام لجمعية الرافدين العراقية في المغرب

*رئيس فخري للعديد من النوادي الثقافية في المغرب     

 

 

faissalhassan@maktoob.com

 

 

قصة قصيرة 

طعام الأُسود

 

         شاءت الأقدار أن احصل على عمل – بعد بحث طويل- في حديقة للحيوانات ، لم تكن عندي الخبرة  اللازمة للعناية بأي نوع من الحيوانات ، فقد كنت في طفولتي لا أطيق القطط وأخاف  الكلاب ويشتد هلعي إذا سمعت من يقول أن في الدار فأراً ، ولا يهدأ لي بال حتى أتأكد أنه تم القضاء على ذلك الفأر الذي هدد أمننا المنزلي ، واعتقدت في البداية أنّ العمل في حديقة الحيوانات لا يتعدى النزهات اليومية طوال شهر وخلال ذلك يمكنني قراءة كل الكتب التي لم أنجز قراءتها بعد والتي أكتريها بالدين من صاحب الكشك القريب من مسكننا ، وفي نهايته أقبض راتباً يكفيني ذل السؤال والهروب المستمر من الدائنين في هذه المدينة البشعة التي يعيش نصف أهلها على أعمال وهمية وتقديم خدمات للسائحين وإمتاع أوقاتهم بتقديم ألوان الفلكلور أمامهم  .

      قدمتني السكرتيرة إلى مدير الحديقة . كانت صغيرة ، فاتنة ، ولها لفتة ظبي وعينا يمامة ، ويبدو إنها أوضحت للمدير سبب مجيئي للحديقة قبل دخولنا عليه ، فقد حد جني المدير بنظرة متفحصة ثم رأيته يشيح بوجهه عني ، وحدست بخبرتي إنه سيعبر لي عن رفضه ، ويعتذر عن تعييني في الوظيفة الشاغرة ، فاندفعت صوبه أرجوه أنْ يعطيني هذه الفرصة ، وكررت أمامه إني سأبذل ما في وسعي من جهد في هذا العمل وبمنتهى الأمانة والإخلاص ، نظر إلي المدير من جديد كأنما ليتأكد من صدق توسلاتي وبعد أنْ فكر قليلاً بدا وكأن قلبه رق لحالي ، لكنه هز رأسه متشككاً في قدرتي على تأدية متطلبات الوظيفة ، وسألني أنْ كنت قادراً على العيش مع الأسُود ؟ !! وهذه هي حقيقة العمل المطلوب كما وضح لي ... وردد : العيش مع الأُسود وأُسود معقدة تكره حتى نفسها لأنها لم تذق اللحم الحقيقي منذ تشرفت بالعيش  معنا .. ( وضحك ) ، فأجبته : أنني أستطيع ذلك ، وهذا هو العمل المناسب الذي كنت أبحث عنه، قال المدير بنفس لهجته الساخرة:( ربما سنطلب منك يوماً تنظيف أسنان الأسُود بالفرشاة ومعجون الأسنان !! )

فكرت : ( طول عمري لم أسمع أنّ أحداً نظف أسنان أسد في حديقة حيوان أو سيرك بفرشاة ومعجون أسنان ..)

وتساءلت : ربما كانوا يفعلون ذلك دون أن أعرف ، فمن يعرف أسرار هذه المهن الصعبة ؟

لم أستطع التراجع عن استعدادي للعمل بالرغم من جسامة المخاطر الموعودة وإحساسي ببدني يرتجف فرقاً منذ الآن . حقيقة كنت بحاجة ماسة للعمل وأضفت لتلك الحاجة الاستحياء من إظهار خوفي أمام السكرتيرة الصغيرة الحلوة ، ومديرها الذي لم يترك وسيلة لم يستخدمها لتخويفي من العمل إلا وتحداني بها .. وأخيرا أمام صمودي البطولي الكاذب هز المدير رأسه موافقاً على تعييني كمساعد مُطْعِم للأسود – تحت التجربة – فكرت في نفسي : إنني لم أجرب إطعام أسود من قبل ... لكنني لم أنبس بكلمة ، وخرجت من غرفة المدير مرتبكاً أتبع السكرتيرة لتسجيل بياناتي في مكتب شؤون العاملين المجاور ، وأنا أفكر بطريقة تجنبني هذا العمل الخطر وسأبذل أي جهد لأجد من يتوسط لي لنقلي إلى عمل آخر في الحديقة غير هذا العمل ، والمهم الآن إنني وضعت قدمي في هذا المكان ووجدت عملاً في مدينة العاطلين هذه ، وبعد أنْ سجلت بياناتي أصطحبني أحد العاملين في جولة تعريفية بأقسام الحديقة ، فلاحظت الأسود كسيرة النفوس مهيضة العزة ، ولا تبدو عليها مهابة الأسود التي نراها عادة في الصور الفوتغرافية وأفلام التلفزيون .

    عرفت من العامل أنَّ عملي يتلخص بتقطيع شرائح اللحم لتقديمها إلى الأسود والنمور واللبؤات مرتين في اليوم ، المرة الأولى في الصباح والثانية قبل الغروب بقليل ، فكرت في نفسي : ( هذا أمر بالغ السهولة !! وسأقضي بقية يومي متنزهاً في الحديقة بين قمرات الطيور والعصافير الأفريقية الملونة وحظائر الزرافات وأحواض الدلافين ، وربما سأحظى بين الحين والآخر بقطعة لحم أحملها عند عودتي من العمل إلى الدار لتعدها زوجتي لنا كأفضل ما أكلناه طوال الشهور الستة الماضية .

      في اليوم الأول من أيام عملي اكتشفت أنَّ كميات ضخمة من اللحم المستورد تجلب بالسيارات المبردة  ، وتحفظ في برادات القسم الإداري التابع للحديقة ، وأوصاني – المُطْعِم الأول – أنْ أقتطع الأجزاء الطيبة ، وفيرة اللحم من الذبائح مع أكبادها وكليها وأحفظها في كيس نايلون ، وأخبرني تلميحاً إنها حصة مدير الحديقة ونائبه ومد راء

 الأقسام ، وعلي أن ْ أحملها إلى سياراتهم بعد أنْ يخرج العمال الى بيوتهم . فكرت بقطعة لحم أهربها إلى خارج الحديقة لتفرح بها زوجتي أيضاً ، وسأعطي منها لجيراننا ، الذين وقفوا مع عائلتي في فترة بطالتي التي عانينا منها طويلاً وقدموا خلالها لنا مختلف الخدمات والمساعدات العينية بالرغم من فقرهم ، التي كانت تذكرني وزوجتي إنَّ الخالق سبحانه لا ينسى عباده فتترقرق الدموع في عيني زوجتي أولاً ثم تنتقل العدوى إليَّ ويحرص كل مننا أنْ لا يكتشف الأبناء سر َّ هذه الدموع المنهملة فنصير محط سخرية أكبر أولادنا ، الذي غالباً ما يعيرنا بأننا نحول أحداث الحياة إلى أفلام هندية نتباكى عليها!! وحاولت أن أتخيل إمارات العرفان على وجوه الجيران ، وكل واحد منهم يستلم حصة من ذلك اللحم الطازج ، الذي لم أر أفضل منظراً منه في كل مجازر المدينة ، وأوشكت على قول : أنَّ لا شكر بين الجيران  لقد عملنا الواجب لا أكثر ... وتخيلت كلمات الشكر تنهال عليَّ ..

         انتعشت الآمال في نفسي بحياة كريمة وربما لأول مرة في حياتي وشعرت أنَّ ثمة أملاً حقيقياً في عيش حياة عائلية مستورة منذ هذا اليوم ، وقد أمضينا فترة طويلة من أعمارنا في الفقر والحاجة ، وقد قست الحياة علينا كثيراً في بعض الأحيان اضطررنا للاقتراض من هذا وذاك ، ولم نتوقع يوماً حسناً على الإطلاق ، لكننا لم نفكر بيوم أبعد من يومنا ، كنا نفكر بتدبير مؤونة يومنا فقط أما الغد أو لماذا نحن وغيرنا بهذه الحال المزرية ، فذلك في علم الأقدار التي أتت بنا إلى هذا الوجود .. عندما شاهدني مدير المخازن الأصلع أتجول كثيراً قريبا من البرادات ولصفة الطمع بالحصول على شيء من اللحم تشع في عينيَّ ، ولقد رآني كلما ذهبت بعيداً إلى أطراف الحديقة عدت مجدداً إلى موقع البرادات كأنما كان هناك خيط لا يُرى يقيدني بالبرادات وكلما ابتعدت سحبني من جديد إليها وأنا أتخيل وجوه جيراني عندما يستلمون مني حصتهم باللحم الذي سأجلبه معي ، وعندما رآني المدير أقترب من جديد ناداني وسألني عن هدفي من هذه المسيرة المكوكية ؟!

 فأخبرته بكثير من الارتباك والأدب المفتعل إنني عامل جديد معّين في الحديقة ولا أعرف أين أقضي وقت الراحة القصيرة ، فنظر صوبي ووجهه ينبئ بتهديد ووعيد ، وطلب مني أنْ أبتعد عن البرادات ولا أعود إليها إلا حين يصطحبني رئيسي المباشر ! كانت أقواله أوامر ، وربما كانت ستتبخر أحلام أحد غيري بعد هذه التهديدات ولكن هيهات أن يحدث هذا لي.. انتعشت آمالي مجدداً بعد ساعة حين رأيت  مدير المخازن الأصلع يغادر الحديقة صوب الخلاء المؤدي إلى الخارج .. وعندها فقط شعرت أنَّ الفرصة قد حانت لحصولي على اللحم أكثر من أي وقت آخر ، اتجهت على الفور إلى قسم البرادات طالباً حصة اللحوم الخاصة بقسم الأسود فأخبرني الموظف أنَّ الوقت المحدد لإعطاء وجبة الطعام لم يحن بعد ، لكنهم بعد أخذ ورد سلموني الكمية على مسؤوليتي ..

      حين قلبت ما استلمته منهم شعرت بالغثيان والقرف فلم يكن باللفافات اللحم ذاته الذي قمت بتقطيعه في الصباح بل وجدت مزيجاً غريباً من أطعمة شتى تم خلطها بحذق ، كالفول والأرز وفتات الخبز المداف ببقايا أمعاء مثرومة وشحوم وجلود ، وقد رش ذلك الخليط العجيب بدم الذبائح وأخبروني أن ما معي هو طعام الأسود !! وعندها  فقط عرفت لماذا بدت أسود الحديقة كسيرة النفوس ولا تطيق ذواتها ، مخلوقات مسكينة لا حول لها ولا قوة وهي على وشك الانهيار في كل لحظة...

· 

أعمامي المقلدون

 

   نحن عائلة من المقلدين الكبار، يعرفها البعيد والقريب من الأقارب والجيران، نقلد من يجذب انتباهنا ويثبت في ذاكرتنا، نلبس ما يلبس، نفعل ما يفعل، ونهتم أن يرى إلينا الناس كما يرى إلى الأصليين الذين نقلدهم، ونتعامل مع الموضوع بكثير من الجدية والاهتمام ونعطي الأمر قداسة خاصة، ومما يثير السخرية والضحك أن يصادف أن يقوم شخصان من أفراد عائلتنا بتقليد خصمين أو متنافسين دون أن تقع أي مشاكل أو سوء فهم بين فردي العائلة، وهذه الحرية الشخصية التي لا يعترض عليها أحد نسميها ( الديمقراطية ) ويسمي بعضنا البعض بالديمقراطي، ولو أستيقظ اليونانيون القدماء من قبورهم وأنصتوا لكيفية استخدامنا لكلمة الديمقراطية للطموا على رؤوسهم ونتفوا لحاهم شعرة.. شعرة ، لتطويرنا معنى الكلمة بهذا الشكل المفجع ، السوقي..

 ونقول حين يتعامل أحد أعمامي مع موظف للدولة (غامزين لعمي قائلين له )

تكتك معه... وتكتك معه أتينا بها من كلمة ( تاكتيك ) ونعني بها أعطه رشوة ..ولو عرف ذلك الذي وضع  مصطلح  ( تاكتيك )  وفهم  كيف نستخدم هذه الكلمة  ، لمات من الضحك ،  وعموما نشأت في هذا الجو الديمقراطي الرصين الذي نتكتك فيه مع المسئولين  الحكوميين ويقلد أحدنا من يراه مناسبا للتقليد ، كان عمي ( اكبر أعمامي الستة ) يقلد فريد الأطرش ، المطرب المعروف ، بلفتاته وسكناته وتنهداته  وصوته المحبط الحزين ، وأسخف أخوته ( عمي الأصغر )  كان يقلد عبد الحليم حافظ بنحوله ، ودماثة خلقه ورقته ، وطريقته في إجراء الحديث مع الآخرين بصوت منخفض خجول ، بذات قصة الشعر الستينية ، وحتى ذلك الشحوب الخفيف الذي نلاحظه على وجهه من دون أن يعاني من مرض ما ، ويبدو  تماما مثل المطرب المعروف ، وكانت كل مراهقات المحلة والمحلات المجاورة ينادينه باسم ( حلومي ) وهي تسمية تحبب مشتقة من أسم عبد الحليم ، بينما كان الرجال من المعجبين بعمي الآخر الممتلىء يسمونه (أبو وحيد ) لتقليده فريد الأطرش ، وفي أعلى صالة الدار كانت صورة كبيرة بالأسود والأبيض لأحد أجدادي ، وهو أب جدي الحالي ، الذي لا يزال يأكل القوت ، ويقلد مسعود العمار تلي * بطريقة وضعه للعقال على رأسه ويرتدي الصاية** المخططة التي يرتديها وحين يقف مستندا على عصاه القصيرة مائلا إلى اليسار كثيرا ، كأنما سينهار قريبا ساقطا إلى الجانب الآخر ، وصورة ذلك الجد بعمامته التي لها حجم إطار سيارة حمل ، ولحية مشذبة حمراء ، مصبوغة على ما يبدو بأرقى أنواع الحناء حينذاك وقد بدا في الصورة وكأنه زعيم ديني كبير ، ولكن الذي يناقض هذا التصور تواتر الروايات التي تحكي عن أميته وحمقه ، وتقليده الأعمى لما كان يرى في عصره من رجال ، لكنه في هذه اللحظة عندما بطلت أيدي أولئك عن إثبات مهاراتها وتهتكت في القبور ، وصمتت ألسنتهم إلى الأبد عن إبداء معارفهم وأكلها الدود ، صار ذلك الجد من خلال صورته المهيبة  وعمامته الممتلئة ، واللحية الطويلة ، المشذبة تشذيبا جميلا ، بعينيه المشعتين بالمكر وأنفه الطويل ، وارتفاع  جبهته لحظة التقاط الصورة الشمسية ، الدال على كبرياء رجل يتبؤا كل مرة مناصب خطيرة في الدولة ، وقد استعان بعض المؤلفين بصورة جدي لنحت تمثال الخليل بن أحمد الفراهيدي  وأستخدم البعض الصورة للحديث عن أصحاب العلم الحقيقيين ، وصارت صورة جدي لأمي ، هي الصورة المعروفة لأبرز العلماء الأجلاء والمتنورين بداية القرن التاسع عشر ، وأتذكر جدتي تقول عنه ، أنه لم يكن يحل قدمي دجاجة مربوطتين ، معتبرة أن جناحي الدجاجة يدان حولهما الخالق تعالى إلى جناحين غير مكتملين لئلا يقلد الدجاج الإنسان في مشيته وانتصابه وغروره والأشد من كل ذلك أنه لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة شكاكاً مقترا ًعلى نفسه وعياله .

    وكثيراً ما رفع أعمامي على أكتاف الناس أمام المظاهرات لما لأشكالهم من تأثيرات حسنة على سير وتنظيم المظاهرة.. فذلك العم الذي نمت لحيته لتصير على شكل لحية كاسترو ووضع قبعة عليها نجمة حمراء تشبه ما كان يضعه جيفارا على رأسه، وكان ذلك الشكل المميز لعمي يلهب ضمائر الجماهير وينمي حلمهم  ببلد سعيد وحياة حرة للكادحين ، ولكن حالما تحضر الشرطة ترمي الجماهير الهاربة عمي إلى الأرض ويختفي الأبطال تاركين ذلك الرمز المسكين ، الذي كان قبل دقائق محمولا على الأكتاف هدفا لضرب عصي الشرطة وركلاتهم التي لا ترحم ، وأسئلة المحققين فيما بعد ، الذين يرون في شكله مما ينبىء عن يساري متطرف وخطير ، يعرف كل مكامن وأوكار القيادات اليسارية ، وعندما تكتشف بساطته وسذاجته بعد دورة من الضرب الشديد  يطلق سراحه ويعود إلى البيت بأقدام متعثرة ووجه منتفخ لما تعرض له من ضرب وإهانة أثناء التحقيق ، أما ذلك الذي يقلد فريد الأطرش فلم يسلم من الضرب أيضا من قبل أنصار عبد الحليم حافظ في أحد دور السينما التي تعرض فيلما يمثل دوره الرئيسي فريد الأطرش ، وطيلة مدة الفيلم ، كان أنصار عبد الحليم حافظ يزدرون فريد الأطرش ويسبونه ويستهزئون  من كلمات  أغانيه ، فطفح الكيل بعمي الذي كان يعتبر أنه وفريد الأطرش شخص واحد وحالة واحدة لا تنفصل ، فانبرى لهم في ظلام القاعة قائلا بحكمة بالغة ( أنه يتعجب من سفاهاتهم  وضيق أفقهم ، كونهم يكرهون المطرب ويحضرون إلى أفلامه ، ولم يكمل جملته تلك حتى ضج أولئك الأنصار بالغضب وتنادوا لضربه من أول القاعة إلى أخرها ، فضرب ضربا مبرحا ، واضطرت إدارة السينما مع ارتفاع الضجيج أن تضيء الأنوار ، وحالما أبصر الجمع المشاغب ، الشبه بين عمي والمطرب المعروف ، عرفوا أن الحظ وحده جعلهم يقعون على مقلد خطير ومحب لا يشق له غبار للمطرب الذي ينافس بلا هوادة مطربهم المحبوب ، فأشتد الضرب على عمي المسكين ، ومزقوا ملابسه حتى جعلوها مزقا ، وعاد إلينا شبه عار يشكو من الآلام  في كل جسده ، وحين رآه عمي الأصغر الذي يقلد المطرب المنافس ضحك عميقا ، وعلق على ذلك الضرب الشديد الذي تعرض له أخوه ، قائلا بصوته المنخفض ( لتعرف يا عزيزي مدى تعلق الجمهور بي  ، وبصوتي ، ومحبته لي ، وأرجو يا أخي وأقولها لك  بمحبة شديدة ، أن تتوقف عن التشبث بتقليد رجل لا يعرف غير الحزن  صاحباً ونجياً ، ولا يأتي من وراءه غير الضرب المبرح لمحبيه ومشجعيه ، فرد عليه أخوه بفم  مدمي  وتعب شديد وروح رياضية عالية....

-  ومن ظن ممن يلاقي الحروب      بأن لا يصاب فقد ظن عجزا

   عمي الرابع كان يقلد داعية إسلامياً، لا يعرف أحد كيف ألتقط أخباره وشكله ونوع ملابسه، وبدا واضحا للعائلة مما كان يرتديه عمي ويحرص على توصية الخياطين بتحضيره له، أن ذلك الداعية من الباكستان أو من جنوب شبه القارة الهندية، إذ كان يصرف أجرته على كل ما يصادفه من أشياء هندية ، حتى أنه صار يضع البهارات وأنواع التوابل فوق أصابع الموز بعد تقشيرها ويزدرد اللب المفلفل ، الحارق ، مرة واحدة ، وعندما يرى أحدنا يأكل طعاما دون أن يضع عليه فلفلا حارقا ينعته بالجنون ، لأنه يأكل شيئا بلا طعم أو معنى ، وصاحب هذا العم المتطرف شابا نصرانيا كثير الفكاهة ، محبا لشرب الخمرة ، فدعاه عمي إلى الإسلام فضحك صديقه النصراني وقال له أنه يحب شرب الخمرة  ولا يصبر على مفارقتها ، فكيف يصير مسلماً ؟  فقال له عمي وهو يملس لحيته الطويلة التي صبر عليها حتى جعل شكلها بهيئة فتائل ملفوفة أقرب إلى الموديلات الهندية المعروفة، وقال له بمكر ( صر مسلما وأشربها ) وبقي يلح عليه في هذا الأمر ،وما أن صار صاحبه  مسلما ، حتى قال له عمي ،وعيناه تلمعان بالنصر ، بما أنك قد أسلمت الآن وفتح الله قلبك للإيمان فأن شربت بعد يومك هذا الخمر حددناك ، وان رجعت عن الإسلام قتلناك ...

   وأكثر أعمامي خطورة في تقليد الآخرين عمي الخامس، ذلك الذي كان يحشر أنفه في الأمور السياسية التي لا ناقة له فيها ولا جمل وقد دأب هذا العم الأحمق على تقليد السياسيين وأصحاب المناصب الكبيرة في الدولة والمجتمع وقد مرت البلاد في تلك الفترة بعدد كبير من الانقلابات وكان حالما يسمع من المذياع أن ثمة انقلابا قد حدث في العاصمة حتى يشرع بكتابة برقيات التأييد مهللا للعهد الجديد ولا يكتفي بذكر اسمه الثنائي في نهاية البرقية بل يضع الثلاثي مع عنوان مفصل ويبقى طيلة الأيام الأولى من الانقلاب منكبا على تحرير البرقيات والرسائل وإرسالها بيد أخيه الأصغر إلى دائرة البريد الصغيرة المجاورة لمكتب أمن المنطقة.

 وكان ضابط الأمن يرى ويسمع كل ما يفعله عمي فأغتاظ كثيرا من جرأته التي صارت حماقة ما بعدها حماقة وهو يعرف أن عمي لا علاقة له بما يحدث من قريب أو بعيد فلا هو من رجال الجيش ولا من أهل السياسة فما الذي يدفعه لفعل هذا الأمر غير المشاغبة وسوء الخلق والجرأة الفائقة ؟

 ولم تمض إلا أيام قليلة حتى حدث انقلاب مضاد أزاح الحكومة السابقة ولم يعلم عمي بما حدث لكنه فز مرعوبا من نومه ورجال الأمن عند رأسه يركلونه بأحذيتهم الثقيلة وجدتي تشق زيقها باكية عند رأسه قائلة أن أبنها لم يفعل شيئا سيئا وضابط الأمن الحانق يسخر من عمي وجدتي قائلا لهما..

- أعرف أنه لم يفعل شيئا سيئا غير أنه أتعب قلوبنا بالبرقيات النارية التي بعثها للحكومة السابقة.. فليشرب الآن مرة واحدة من ذلك الحساء الساخن الذي أحرق تحت قدره كل وقود الوطن وورقه..

وابتداء من ذلك اليوم الأسود صار عمي يسجن ويطلق سراحه بتعاقب الحكومات واختلافها سواء كتب برقيات التأييد أو لم يكتبها وهو ذاته لا يعرف سببا واحدا لما يفعله معه رجال الأمن، لا يعرف طبعا أن أسمه صار بواسطة ضابط الشرطة الحانق ذاك ضمن ملف المشاغبين والذي يحرص أي عهد جديد على تنظيف البلد منهم وخصوصا بداية تسلمه للحكم وللأشهر الأولى في الأقل خوفا من السلب والنهب ومظاهرات الشغب المعاكسة.... عمي السادس كان يقلد أشهر المزورين في التأريخ فهو يحدثك عن بونزي رجل العصابات الأمريكي الذي لا تفرق الشيكات التي يزورها عن الحقيقية وزبرو الإيطالي المختص بتقليد أوراق أطلاق السجناء من سجنهم والفرنسي دودفينه المختص بكتابة وصايا الأغنياء المزيفة وأوراق التركات وقد وجدت عمي ذاك جالسا على أحد جوانب زورق من زوارق الجسر على دجلة في يوم شديد الريح وهو يمسك أطراف ثوبه بين ساقيه لئلا تطير ويحاول أن يكتب على ورقة وضعها على ركبتيه فقلت له

- هل جننت يا عمي... في هذا الوقت وهذا الموضع تكتب ؟

فقال عمي ضاحكا..

- أهلا بابن أخي...

ثم همس لي بعد أن تلفت يمينا وشمالا..

- أريد أن أقلد خط رجل مرتعش اليد ويدي السليمة لا تساعدني على فعل ذلك فتعمدت الجلوس هنا لتحرك الزوارق بالموج في هذه الريح الشديدة، فيجيء خطي مرتعشا كما ترى على أمل أن يشبه خطه.. مهنتنا شاقة كما ترى يا ابن أخي العزيز فديتك منها بروحي

   أما أخوهم السابع فهو أبي الذي مات مبكراً بعد ولادتي مباشرة وقد تركني لأتربى بين أعمامي الستة كواحد منهم معتقدا في البداية أني أخ لهم ولست ابن أخيهم المتوفى وكنت أشاطرهم طيشهم وعراكهم ومفارقاتهم لكنني لم أجرب طرقهم في تقليد الآخرين كنت فقط مغرما بتسجيل ما يفعلون وأضيف على ذلك في بعض المرات مما أقرأ أو من بنات أفكاري وهنا لا أستطيع أن أقول شيئا عن أبي يرحمه الله لما للأبوة من حرمة وقداسة، مكتفيا بقولي عنه أني لأعلم أن له شرفاً وبيتاً وقدماً وإذا قال قائل بقوله انك بالغت بحق أبيك كثيرا سأقول له أني ببساطة أعني بالشرف الأذنين المشنفتين والبيت أعنى به أن له بيتا يأوي إليه كباقي خلق الله أما القدم فقد عنيت أن له قدما يطأ بها وهذا ما قصدته بالضبط ومن فهم أني قصدت غير هذا فهذا شأنه والسلام.

هوامش

 * مسعود العمار تلي..مطرب من جنوب العراق تقول الروايات أنه كان امرأة إلا أنه دأب على ارتداء ملابس الرجال والغناء بصوت رجولي مات هذا المطرب عام 1934..

**صاية مخططة.. نوع من أنواع الجبة تلبس في جنوب العراق في الريف والأهوار..

 

 

 

الصفحة الرئيسية