خصوصية الحداثة في شعر أديب كمال الدين

 

 

 

 

د. صالح الرزوق

1.

لا يمكن للتصنيف أن يحدد هوية أو ماهية العمل الفني. ولكن مع ذلك إنه يقدم فكرة عامة عن الأصول والقواعد وأهم من ذلك عن الحساسيات التي ينتمي لها.
وانطلاقا من هذه القناعة تبدو قصائد أديب كمال الدين بنت فترة الستينات.
وهي الفترة اليتيمة التي وضعت أبناء ذلك الجيل في موقف معاكس للذات الافتراضية، وحملت كل السمات المرجوة للفن الواقعي مثل الاقتراب من الموضوع و التعامل مع الطبيعة ( البشرية أو حتى غير العاقلة ) بشيء من الحنان والتعاطف، ولنقل بشيء من الرعاية الأبوية، ثم التخلص من أعباء القانون، أو الفروض التي نتوارثها من أجيال.
و على هذا الأساس لا يمكن إدراج هذه القصائد في عداد المدارس الحديثة التي وقفت في منتصف المسافة بين أخلاق الشرق المذكر و الجريح و الحامل لجميع صفات التخلف و كل شروط الهزيمة، كل شروط الشرق المغبون و المتألم، و أخلاق الغرب الصناعي الذي استطاع أن يعكس علاقة الإنسان بما حوله و أن يبوئه عرش الطبيعة، و لو أنها لا تزال ترادف معنى المكبوتات بجبروتها و لا تناهيها.
لقد حملت قصائد أديب كمال الدين سمات التجربة العامة للواقعية الجديدة أو الواقعية التحليلية، وعلى رأسها الأثر النفسي للأفكار. وحافظت على عنصر الدراما وعناصر التوتر والخوف. ولكن عوضا عن أن تصورها من الخارج وربما بالتوازي معها، وكتجربة يمكن اختبارها، دخلت في آلية مطلق الحالة. وبعبارة أخرى تعاملت مع الدراما كسرد من غير عناصر. وهذا أدى إلى اختبار أو ملاحظة النتائج وليس الأسباب.
و من هنا بدأت القطيعة مع أول شرط لقانون المحاكاة.
و ترتب على ذلك 3 نقاط جوهرية:
الأولى تجريد الأفكار. حيث أن موضوع القصيدة لم يعد محددا مع أنه واضح، و هذا وفر للبنية الابتعاد عن المباشرة و الاحتفاظ بمسافة أمان من المغزى: المضمون المستمر.
لقد دخلت فكرة القصيدة في مضمار الماهيات، و حرض ذلك على التعامل مع المادة و الشكل بطريقة عاطفية تنسجم مع أحوال الوجدان المقهور. مثلا كتب أديب كمال الدين في ( مواقف الألف) سيرته الشخصية و هو يبحث عن مأوى، أو و هو يختبئ وراء جدران أحزانه، أو حتى و هو يعاني من ظلم الأوثان الجديدة كالذهب و نشاط السوق في عالم رأسمالي غشاش يستنزف قوة العمل كقوله :


 هل تذكّرتَ مشهدَ المتقاتلين من أجله،
البائعین كلّ شيء من أجل رنينه؟
 هل تذكّرتَ كيف خالطه الدم؟
وأحاطتْ به السكاكين من كلّ جانب؟

 

 

 


و كم تبدو هذه الصور متحركة و بعيدة عن بلاغيات الذهن الشعبي السطحي و العابث الذي قدمه لنا خيال العامة في ألف ليلة و ليلة. حيث أنه لم يحاول تسمية الأشياء بمسمياتها المجازية المبالغ بها مثل الأصفر الرنان و هادم الملذات و مفرق الجماعات، و حاول أن يعتمد على ثقافة ملموسة لها علاقة بقاموس الوقت الحاضر.
و في ( أخبار المعنى) كتب سيرة أفكاره و هي تتابع ماذا يطرأ على الوجدان العام من تبدلات. و لم يجد صعوبة في الابتعاد ما أمكن عن لهجة الهجاء و التقريع. و هي اللغة التي وظفتها الحداثة لتنال من غريمها السابق: الواقع بنسخته الاشتراكية.
و بهذا الأسلوب لم يكن من المعيب للرموز التي لا تحتمل غير معنى واحد، كالنور الافتراضي و النور الحقيقي أو الحركة المستمرة و الحركة المحدودة، أن تتحول إلى معادل موضوعي يعبر عن أزمتنا الخانقة في الوجود. فالنهر يتحول إلى إله تافه ملقى على الأرض ( قصيدتي الجديدة)، و الشمس تتحول إلى رجل عجوز جبان يخاف من أن يسهر ( رغبات)، و الكتاب لحقيبة تحتوي على أشياء مكسورة ( الزائر الأخير )، و هكذا دواليك...
النقطة الثانية و هي تغريب الصور. حيث أنه تم كسر العلاقات المنطقية بين المشبه و المشبه به، و لم تعد المفردات تدل على معانيها بشكل مباشر. و أصبحت العلاقة إبدالية. و بالتعبير البلاغي تراجع نشاط الاستعارات، و هي من الوجوه المعروفة لبلاغة الحداثة، و حل في مكانها المجاز المرسل و الكناية، و هما من خصوص خطاب الواقع. فلحرارة الشمس طعم في الفم ( جاء نوح و مضى)، و الحلم يمكن أن يكون خفيفا كالغبار ( القصيدة السابقة)، و للوجود لوح نكتب فيه ( رقصة سرية )، و في الصورة الأخيرة يبدو أثر الموروث الديني بقدراته الهائلة في تحويل المدارك و التصورات إلى أشياء محسوسة.
و هنا ينجم أول خلاف مع تصنيف هذه القصائد، فمع أنها بنت حزام الستينات، من ناحية البنية العامة و المنطق، حملت جزءا أساسيا من بنية و أعراض فكر الخمسينات. إنها لم تفرط بالخصائص الحركية لتلك الفترة من تاريخ تشكل الأساليب. و حافظت على المفردات و الأفكار المرتبطة بها، و على الدوافع أيضاً، غير أنها عكست الاتجاه.
لقد انطلقت من العام حيث أن الأرض كانت ممهدة و الظروف مناسبة لقليل من التفاؤل بالمنهج. و وصلت إلى الخاص و بما أمكن من تعابير تحت واقعية تبين أثر الأخطاء و الشرور الغامضة و التي تبدو بلا مبرر.
و إن قصيدته ( العودة من البئر ) تعبّر عن هذا الشقاء بطريقة تشير إلى الكم الهائل من العبث و اللاجدوى في هذا العالم و ذلك بتوجيه اللوم لوالده بقوله:


لماذا لم نقل أي شيء...
ولماذا أورثتني دمعتك الطاهرة؟


و يجدر بنا أن نلاحظ اتجاه الحركة من صيغة جماعة ( جماهير و حشود و ربما عشيرة أو عائلة متكاتفة )، إلى صيغة مفرد ذات طابع حزين و متعثر. و يتكرر ذلك مجددا في طبيعة علاقته مع وسيلة الخلاص المبهمة، الأداة السحرية التي نتغلب بها على النوائب، و أقصد بذلك سفينة نوح. فالمونولوج الدرامي يشترك مع الجماعة في الطلب ( قصيدة جاء نوح و مضى ). و لكن ينفرد وحده في الجواب - الاستجابة و الرد ( قصيدتي الأزلية).
و لن نجد مفردات و تراكيب بهذه الروح المتبرمة إلا عند رامبو الذي كان من موقعه المعاكس كثير الظنون بهذا العالم المتحجر، حتى أنه قال في إحدى قصائده: نعم، أهلا بنهاية العالم، تقدم، تقدم، دائماً... الآن تبدأ المغامرة الكبرى.
و يرى هنري ميلر فيما سلف: أنه تنبيه يفسر لماذا يأتي كل شيء بطيئا ، متثاقلا، بالنسبة لرجل حالم يقف وسط الواقع... حيث كل شيء أيضا يتحول إلى خراب. ( ص 30 - 31 . رامبو و زمن القتلة. ترجمة سعدي يوسف ).
و بحسبة بسيطة يمكن أن نجد كيف أن أديب كمال الدين المؤمن و الزاهد يتقاطع مع رامبو المتطيّر و الزنديق.
الأول يرى أن العالم مزور و يعاني من التدهور و التفكك و الفساد: فثمة خطأ في العاطفة الملتهبة و في الأشياء الباردة التي ليس لها قلب ( ثمة خطأ)، و القصائد سقطت منها المعاني كما تسقط أوراق الأشجار في الخريف لتدوسها الأقدام ( الرقصة)، و قصائد الحب مزقتها الطلقات ( اليد).
و الثاني يلاحظ أن تحت نظرته الكليلة تذوي كل الزهور، و تشحب النجوم، و لم يبق أمامه غير التعايش مع ورطته الخاصة ( من هنري ميلر- ص 32).
و لماذا نذهب بعيدا: لقد تكررت صورة الأوراق و الأزهار الذابلة، و بالتحديد زهرة الدفلى
oleander، عدة مرات لدى الشاعرين. و نحن نعلم أنها زهرة ذات لون أحمر خفيف و غالبا ما رسمها الفنانون تحت أقدام المسيح و هو على صليبه في بعض الجداريات و على زجاج بعض الكنائس. إنها زهرة ترمز للشهادة و العذاب و القيمة الدلالية للفداء. و مع أنها تستخدم للزينة تحتوي أوراقها على مادة سامة تتسبب بالموت. ( انظر موسوعة الشهابي للمصطلحات الزراعية). و تستخدم كذلك للإجهاض و الانتحار. و أزهارها خنثى. ثنائية الجنس. و معنى اسمها كما ورد في القاموس: منتهى الحذر. و هذا يضعها خارج سياق سفينة نوح التي حملت من كل نوع زوجين إثنين. فالدفلى لاحاجة لها لذكر و مؤنث. و تستطيع أن تنتج الجيل اللاحق من نبات وحيد المسكن ( بلغة داروينية مبسطة و سطحية ). و كأن التركيز غير المقصود عليها يشير إلى إحساس الشاعر أن تحت هذا الرماد نارا يمكن أن تشتعل في أية لحظة، و أن هدنتنا مع الواقع مؤقتة.
و هذا تأكيد آخر على صور الحياة و على قيمتها المحتملة و لإمكانية بث روح القوة و المجد فيها رغم الألم و المعاناة. و من المعتقد أن هذه العناصر السحرية وفرت الدعم النفسي للأفراد و زادت من تواصلهم مع البيئة ، و سهلت عملية الانتقال إلى الأبدية. و في عدة حالات كما قال ( ريكليف كاندلير و ولفرام أولريش - مجلة علوم النبات التطبيقية - 15 أيلول 2009 ) كانت ترتبط الاستخدامات الطبية لهذه النباتات مع معناها الميتافيزيائي. و أعتقد أن هذه الزاوية هي الخلفية التي خرجت منها بذور الواقعية السحرية في العالم الثالث.
و لمزيد من التوضيح: كانت فلسفة فن الشعر تؤدي نفس الدور في تحليل و إعادة رواية التاريخ. أو أنها تقوم بدور الجوقة في الدراما. أو دور الفذلكة التاريخية في الرواية المبكرة التي ظهرت في مطالع القرن المنصرم. و تنذرنا أن العالم القديم أوشك على الأفول و نحن على مشارف عالم جديد ، و المحظوظ من تواتيه الفرصة.
و من المؤكد أن لدى أديب كمال الدين اهتماما خاصا بصور شتى لهذه الفرصة و منها الطوف ، و تحديدا سفينة سيدنا نوح.. سواء و هي تتحرك بحمولتها، أو و هي تستعد للإقلاع. و لكن غالبا ما تبدو سفينة مقفلة. و ذات قلب شرير. و أشبه بجيش الإنقاذ في نكبة فلسطين. لا تستطيع أن تنقذ نفسها و لا قبطانها من المأساة. و هذا واضح في تصويره لرحلة السفينة بأنها موحشة و لم نهيء لها أي شيء. ثم إن نوح كان نرجسيا و لا يهتم إلا بنفسه و بابنه و طيوره ( جاء نوح و مضى ). زد على ذلك أنها تبدو مثل رموز المركبات الأخرى التي لا تخلو منها دواوينه كالقطار و الطائرة. إنها أشبه بعربة متحركة تدور من حوله فقط، و لا تسمح له بالصعود أو بالهبوط. ترسم العالم و هو بحركة دائبة، و تؤكد له أن السكون معضلة خاصة به، و ليس مشكلة عامة. و أن الجحيم الذي يعاني منه ( كما قال أونامونو ) هو في الداخل و ليس في عموم التجربة.
و لكن من جانب آخر لا بد من ربط السفينة بتخصيصها، و هو الماء. أو سيد الأرض بلغة البابليين. و هذه هي شعرة معاوية ( إن أحسنا التعبير ) التي تضع في كفتي الميزان الموضوع و مرجعياته. و بلغة أخرى التي تغلّف الغرائز بمصدر الفعل و الحركة ( ص 172 - ما قبل الفلسفة. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا ). فالماء في كل قصائد أديب كمال الدين متحرك ( بشكل أمطار و فيضانات و أنهار )، و لا توجد له صور سكونية، و بالاستطراد ليس له مضمون نرجسي، و لا مضمون مرآة. و هذا يعني أنه يتعامل مع الفكرة الشعرية من منطلق تذكير و تفاعل، و ليس وفق منطق تأنيث. وعلى أغلب تقدير هذا يعود لأهمية المياه الجارية عند المسلمين في طقس الوضوء. بغير الحال لدى المسيحيين الذين يستعملون مياه الجرن في التعميد.

 

الغريب في الموضوع أن حداثة أديب كمال الدين كانت من طرف أنصار المدرسة الواقعية في تفسير رموز الماء. فهو مع المعلم شولوخوف مؤلف الدون الهادئ و الذي يعتقد أن الحياة لا تعرف الهدنة مع الظروف. و لم يكن من طرف غادة السمان (انظر قصتها: لا بحر في بيروت) أو زكريا تامر (وقصته الرحيل إلى البحر) في استعمال مصادر المياه على أنها صورة ترمز للفوضى و الخراب و للنفوس الآسنة التي لحقت بها جرثومة الفساد. لا أعتقد أن شعر أدیب كمال الدین یدین بأي شيء لأخلاق و سلوك الطبقة الأرستقراطیة التي وقفت ضد الحكومات العسكریة في خمسینات و ستینات القرن حیث أن مقیاس شرف الكلمة ارتبط  بالهجوم على المكاسب الصغیرة و التافهة والتي  حققها العمال وصغار المنتجین. ولكنه یبدو لي أقرب للحداثة االذهبية التي ترعاها البورجوازیة الصغیرة وبكل ما أتیح  لها من أدوات وأسالیب.
مهما يكن الأمر، هذه القصائد من ناحية الرموز العامة تتصل بثقافة مناطق الاستقرار ومجتمعات الحضر، وهي شديدة الابتعاد عن ثقافة البدو والصحراء ( مجتمع الرعاة و الجاهلية الأولى عند العرب ). ولا توجد أية إشارة ذات اعتبار تربط الذهن بتاريخه. ولذلك إنها قصائد تعاني من مشكلة العطالة التاريخية. إن مشاعرها تجاه تعاقب الفصول و الأزمنة معطلة و ملغاة.
وترتب على ذلك تقليص حجم العلاقة مع الذاكرة.

2.

نقطة أخرى خاصة بحداثية أديب كمال الدين. إنه بطل عاطفي و رومنسي، و لكنه يتجنب النظر إلى الخلف. و لا يحب أبدا أن يتغنى بالماضي السعيد. و لا بقصص الحب الميتة. وعلى الأرجح وراء ذلك أزمة وجود. أزمة إعادة توزيع لترتيب العلاقات. فالـ "هناك " يتحول إلى الـ " هنا " بمنطق هيدغري بسيط و خفيف. أو بعبارة أخرى إنه يتحقق الآن. لأن الحقبة هي مكان متجمد بقوة التأمل و التصوير. و هذا يفرض عليه أن يكون نسيج وحده و بعيدا عن السرب و يبحث عن منبع الطاقة في الذات و ليس في إسقاطاتها. في العالم الداخلي و ليس في الواقع. و من هذه الحقيقة كانت كل عناصر الموجود لا يمكن إنجازها فنيا إلا من خلال انعكاسها. و بلا أية اهتمامات بمسألة الوقت. و هذه هي المصالحة الوحيدة بين منطقه المائي و منطق الثقافة الرملية ( كما تجدها لدى شعراء آخرين يلعبون بفكرة الصحراء و الرمل و الرماد على أنها من مخلفات احتراق التاريخ و تعاقب الأزمنة. و منهم علي الجندي مؤلف صار رمادا، أو حتى عبد الرحمن منيف مؤلف خماسية مدن الملح ). فالحركة لدى أديب كمال الدين هي في دائرة الغمر، حيث أن العالم تطبيق بسيط لفكرة الإرادة الإلهية. و هذا فرض عليه بالمقابل أن يختصر كل الإشارات إلى اللون الأخضر و لو أنه ذو دلالة تشير إلى التصوف و النزاهة في الأخلاق و العبادات. و حتى لو أنه مرتبط لفظيا بسيدنا الخضر قاتل التنين- الشيطان. أو المحارب الشجاع الذي تصدى لمصادر الرعب. على أية حال إن اللون الأخضر يأتي هنا بشكل جناس مع الخضراء و هي السماء ( باعتبار أن الحافز الإيماني يأتي في هذه القصائد أولا )، مقابل الغبراء التي هي الأرض ( كما ورد في المعجم الصوفي لسعاد الحكيم - ص 398 ). و هذه قرينة على عذاب الشاعر أديب كمال الدين. عذاب منشأه الحصر الذي تفرضه هموم الأرض و الواقع.
و إثبات ذلك في قصيدته اللطيفة ( المبحر منفردا ) و التي تؤكد على دور الذات الشامل في حربها المفتوحة ضد عناصر الفساد بكل ألوانه. و منها القرصان الأحمر ثم القرصان الأصفر و أخيرا الأسود. و كأن قاطع الطريق - قرصان الشعر، متدرج و متصاعد. من ألوان باردة باتجاه ألوان داكنة و حارة و كيدية. و لا يوجد بعدها من وسائل للشر المستطير غير الريح الصرصر التي اشتق منها الساميون اسم زوجة آدم الأولى ، الناشز ، ليليث.
عموما يمكن اختصار تراتبية معاني تلك القصيدة بالمخطط التالي :


خطاب موجه إلى الحرف ← حرب ضد القرصان الأحمر ( = الجرح النازف أو النار الحارقة ) ← حرب ضد القرصان الأصفر ( = غروب الشمس و نهاية النهار أو الأوبئة و الانحطاط و الانحدار و الغيرة ) ← حرب ضد القرصان الأسود ( = الموت و الظلام و الفجوات العميقة و المدافن )← أخيرا الحرب ضد الريح العاتية التي تمنع المركب من التقدم إلى بر الأمان.
و بخطوة تالية من الأجدى تكثيف المخطط السابق كما يلي:
التبشير بالرسالة ← الحرب ← الإصابة و الرقود على فراش المرض ← الموت ← ثورة العناصر.


و إن دمج ألوان التوتر و الصراع لا يضر بالمعنى ما دام هو صراع ضد منشأ خطر و توتر. و لأن كل ما ليس أبيض ( عند العرب - كما ورد في المعجم الصوفي ) يكون أسود.

 

 

 


و أرى أن هذا التوجه يقوم على دمج موقفين: الأول يعود للقرن التاسع عشر حيث كانت ثقافة الموت هي السائدة للتعبير عن فجيعة الطبيعة البريئة أمام زحف علاقات مجتمع صناعي و بلا قلب و عنده ينتهي تاريخ الرومنسية البيضاء. و الثاني يعود لفترة النهضة و إصلاح الناسوت حيث كانت مفاهيم الفكر البورجوازي تناضل لتفتح الطريق أمام مجتمع تحرسه علاقات درامية لنظام إقطاعي متحجر.
و هكذا تبدو علاقة الماء بالشعر عند أديب كمال الدين أقرب لتكنيك أساطير التفسير، و ليس التكوين. لذلك إن المرجعية في الخارج. في ضمير ( هو). فالماء لديه مبرر للحركة فقط. إنه لا يقول مثل محمد عمران ( ها إن جسدي بحر). و لكن يقول بصوته المتلعثم و المخنوق: ( دخلت مرتبكا كجثة تسقط في البحر ). ثم يتساءل بلوعة و تفجع: ( من ألقى ذاكرتي في بحر الظلمات؟ - قصيدة سأقبلك الآن )  و هذه إشارة إلى الرحلة المستمرة. رحلة الحياة المتورطة بجينوسايد الغمر و الفُلك المنقذ. و ذلك يدفعه للحرص دائماً على رسم الحدود بين حيز - أنا - ضمير المتكلم، و تيار المياه الذي قد يشير إلى حدس برغسون أو إلى جدلية الأشياء الإغريقية.
إن التاريخ هنا نقطة اتصال مع الإحساس بالفاجع و دراما الأحزان المتكررة. و لو اعتبرنا أن هذه القصائد قصص وجدان شاعر يكافح ضد مصادر الألم العام فإن أي تحليل بياني سوف يؤكد أنه يعتمد على المشاهد الثابتة، و التي لا تهتم بمبدأ التعاقب و لا حتى التقابل. و إن المعنى لا يتطور إلا من خلال تكامل الرموز مع المشاهد كما فعل زكريا تامر في ثورته ضد التقاليد الواقعية.
فالماء هو الدرع الذي تحمي به الشخصية تفاصيل هويتها المتألمة و الحزينة من الضياع، و في نفس الوقت الضمانة لاستمرار الصراع على البقاء حيا. أو نواة الدراما. بعكس طريقة عمل الرموز الرملية و الرماد. فهي رموز يمكن أن تدفن الحياة فيها. و أن تقتل القدرة على الأمل و الشفاء من اللاجدوى بالوهم و بالرعب من الكهولة و من دراما فصول العمر و فصول الطبيعة الأربعة. فالتراكيب التي تأتي من أصل ترابي ( إن صحت التسمية ) تستغرق عادة في وصف الجفاف و الحضارات الهيولية. و تستمد مشروعها من إيديولوجيا مزاجية كما هو حال علي الجندي. فهو في قصائده، دائما ، يبحث عن الحياة في حفنات الرمل ( ص 180 )، و: إنه يعزف بقيثارة من ورق الرمل ( ص 9 )، و أيضا يتدحرج: على أجنحة الرمل ( ص 12 ). و هذا بدوره يفتح الباب للتأكيد على صور الـ ( أرملة ) التي تدل على فجيعة فراق و موت ، باعتبار أنها مشتقة دلاليا و لفظا من الرمال.
و لكن ليست هذه حالة أديب كمال الدين فهو يركز في كل تراكيبه على تخصيص الحركة في الماء. و لا سيما بصيغة بحر و مشتقاته. حتى أن كل حركة يستعير لها الإسم المعروف ( الإبحار )، فيقول : يا رجلا مبحرا إلى الله، و يقول أيضا: أبحر باتجاه العبث، أبحر باتجاه الماضي، إلخ. و أحيانا يربط كل الحركات و لو أنها مجازية بالسفن فيقول : يا عابرا شمس الله و سفنه و كواكبه.( قصيدة إبحار ). ثم يختار أن يكون البطل الأوحد لموضوعاته و أن يبحث مثل شخصيات بيرانديللو عن المؤلف. ففي نص ( قصيدتي الجديدة ) يبحث بإلحاح عن مؤلف لقصيدته. و يتوهم أن هذا ممكن على يد حسناء في الباص، أو طفل صغير، أو حتى بواسطة مجرى الماء المتحرك، النهر. بمعنى أنه لم يحبذ أن يكون في خدمة الأسطورة الاجتماعية للحداثة، و لكن أن يوظف الحداثة لخدمة الشعر.
إن الفارق بين الشاعرين موجود في نقطة البداية. في أن علي الجندي شاعر ساخط و رجيم. و يستمد أسطورته الخاصة من رماد طائر الفينيق الأحمر أو الأشهب إن شئت الحقيقة، و المدفون تحت الرماد. و الذي يستعد للخروج و التحليق في لحظة بزوغ الحقيقة المؤجلة أو منعطف الحضارة المعطل. و لذلك يستعمل مفردات لها معنى مع وقف التنفيذ، مثل : النزف تحت الجلد ، النبيذ الأحمر القاني ، العاصفة المكسورة، إلخ. بينما أديب كمال الدين أقرب ما يكون لمنطق شاعر مائي. مستقر على ضفاف حضارة زراعية تتخلى عن أخلاق الفرسان لمصلحة نشاط تبادل سلعي بسيط. و هذا يضعه أمام كل الرموز المحتملة لعلاقة البحر مع الصياد. و لا سيما بالصيغة المعروفة التي كتبها لنا منذ خمسينات القرن العشرين بطل روايات الحروب الأهلية : أرنست همنغواي. و الإشارة لعمله الخالد ( الشيخ و البحر)، و الذي يضع نصب أعيننا لأول مرة ملحمة البورجوازية الصغيرة.. الصراع ضد عناصر الطبيعة البكماء و غير العاقلة، و اتخاذ الأهبة و الاستعداد لتحمل أعباء الفشل في هذه الجولة بسبب اللاتكافؤ.
و أغلب الظن أن هذا الموقف ناجم من طبيعة تفسيره لمبدأ الوجود و العدم. فهو موجود بمقدار ما تتوفر بين يديه الطاعات و العبادات. و هو غير مرشح للزوال و لا لخطر الموت، و لكنه مستعد دائماً لآخر لحظة خطيئة و ندم و لأول فصل من رحلة العبور. و لقد كان ذلك يعفيه من مشاعر الخوف أو الرعب التي تسببت بها فلسفة أرض الخطاة ( عند أنصار توما الإكويني) و فلسفة الفراغ الوجودي ( عند سارتر و أتباعه). لا يوجد في شعر أديب كمال الدين لا - خوف من التجربة مع الواقع. و لكن تتوفر لديه مشاعر أصيلة بانعدام هذا المبدأ نفسه. إنه ليس مجرد نفي لحالة من الوجود العابر و المثقل بالأخطاء، و لكنه عبارة عن نفي لحالة التأويل من أساسها.
لقد كان علي الجندي وجوديا ملحدا أما أديب كمال الدين فهو وجودي مؤمن. و هذا هو منعطف الطريق بينهما.
الأول يتابع بنبرة ساخطة و عنفية. نبرة مقاومة ضد أسباب الحصر و مع إشباع الرغبات و النزوات. انطلاقا من عدم إيمانه بيوم الحساب. و هذا يفتح له الباب لمزيد من التهور و البطش في اللغة. و بمزيد من الاتكالية على الصور المتطرفة التي تشعل شرارة الحروب و تركز على الحظ و الصدفة و الوهم و العرافة كسلوك عرفاني مادي. و الثاني يتابع بنبرة تشكي و تذمر و حصار لكل أنواع المباهج التي ينظر إليها بعدسة مكبرة تبدو تحتها بشكل رذيلة و انحرافات. دون أن يغلق أمامه أبواب السماء. و دون أن يفصل مبدأ الإيمان الباطني عن مبدأ العمل بشروط جواز المؤمن. و هذا يضع شعور و سلوك التلذذ على طرفي نقيض .. سادي النشأة يلحق الخراب بغير الذات، و مازوشي النشأة و ينتابه الفرح و الخلاص بإلحاق الأذى عن طريق اللطم و الندب تجاه خطأ أصلي و افتراضي. أناني مقابل إنكار للأنا و تضحية بالذات و تقديمها كقربان على مذبح التطهير و الغفران. و هذا أقرب شكل من أشكال التعبير عن تفكك العلاقات بين أجزاء الجسم غير الظاهر، كعالم الغرائز و النشاط النفسي و الأوهام و أخيرا عالم الأحلام، البوابة المفتوحة على القطاعات غير الواعية. حيث أن الماضي ( كنشاط للعاطفة و الذكريات ) يعود مجددا بصورة حوافز تشجع على ما يقول عنه لاكان إنه تكرار
repetition ( انظر : the four fundamental concepts of psycho-analysis - ص 12 و ص 48). و ذلك برأيه بدافع من نفس المؤسسة التي تعرضت للكبت فيما سلف، و لكن تعمل في نطاق اللاوعي اليقيني. و هو ما أترجمه عادة بمفهوم: الإيمان أو المبادئ. و إذا اتفقنا أن الأشياء تدل على عكسها فالانهمام بالذات ( و هو تعبير مشتق من فوكو و يعني حتما الانهماك ) يشير إلى إنكار الذات. و ربما إلى إلغائها من قاموس الواقع. و هذا يمكن أن نفهمه في حالة أديب كمال الدين كرجل يعيش في عالم تحولي و انتقالي. عالم ليس له وجود ملموس و لا نستدل عليه من قوة البصر و لكن بقوة البصيرة. و تكون دائرة المحسوس فيه أشمل من دائرة الملموس. و الأثر ( الذي يتضمن المعجزات و المشاعر و العاطفة و الكرامات ) عبارة عن خيط يربطنا بالظاهرة التي لا نراها بالعين. و من هذا الباب نستطيع أن نفهم لماذا كان يعيش في قصائده بقوة المجاز. و لماذا تحارب المدارس الفقهية التوجه الواقعي بعتاد كل أدواته له وجود ملموس فقط في مجال نشاط اللاشعور و بالتالي في نطاق العقل الباطن. و هذا بلغة ألان تورين تدمير للأنا ، و قطيعة بين الفرد و نشاط المجتمع ( ص 164- نقد الحداثة )، و كفاح ضد الوعي و ضد الأنا ( ص 164 ). و الغريزة بهذا المعنى تتحول إلى الدفاع عن ميول كل نظام عضوي حي لإعادة إنتاج و تعزيز الحالة التي اضطر للتخلي عنها بفعل مبدأ الواقع و هو قانون الأب ( ص 165).
و لذلك كانت موعظة التاريخ الفني و الذهني لدى الشاعرين متعاكسة.
علي الجندي يتابع حتى نهاية الشوط مع شخصياته العدمية التي تضرب بمبادئ الشخصية العامة عرض الحائط، و يعيد تصوير عثرات و سوء حظ الملك الضليل، ثم طرفة بن العبد و سواهما قائلا بشكل علني و سافر:
ها أنذا منطلق كالسهم ، كالنيزك في اتجاه التيه.
لا يهمني أن يقودني جنوني الطليق ( ص 72 - طرفة في مدار السرطان ).
و كأنه صدى آخر للشخصية الأربعينية محجوب عبدالدايم بطل نجيب محفوظ الذي لم يتوقف عن الرد على كل الأسئلة المحيرة بكلمة غامضة و لا يوجد أقصر منها في لغة الضاد : طظ.
و أديب كمال الدين يحبذ أن ينسحب لبرجه العاجي و يعيد جمع و طرح حساباته مع الظروف بأسلوب المرحلة الثانية من حياة نجيب محفوظ ، حيث أنه يستجدي من إلهه الرمزي المغفرة والعزاء بقوله:


فكنْ بي رحيماً
وأنا داخل النص
وأنا خارج النص
فالظلامُ الذي يشتدُّ حولي
ليس كأيّ ظلام.

 

 ( غزال أكل قلبه النمر).

 

 

 

 


و من خلال نظرة عامة يمكن أن نلاحظ كيف أن قاموس الشاعرين مختلف بمرجعياته و وظيفته.
علي الجندي يتكئ على مفردات من أصل ناري ، و مفردات ذات منشأ ليبيدوي، و محرضات خارجية للحواس كالأطعمة الحارة و مشاهد التعري و الفضائح. و يترافق ذلك مع كم هائل من مفردات حربية و عسكرية: في مقدمتها خنادق الجبهة و المفرقعات و الرصاص و البواريد.
و بالمقابل يميل أديب كمال الدين لمفردات من أصل مائي. مع أطنان من الكلمات الناجمة عن مشكلة الحصر أو الكف - المكبوتات التي لا تبحث عن طريق التفريغ و الإشباع، و لكن عن طريق الإعلان عن نفسها بالأساليب المازوشية المعروفة كالشكوى و الانتظار و التذمر و القرف و اللوم و ما شابه. أضف لذلك كل مرادفات كلمة ماء و رطوبة و كل مرادفات الأزهار الحزينة التي يكثر استعمالها في طبيعة صحراوية شديدة التحمل للعطش كالنخيل و الصبار، و قليل من ورود الزينة و النباتات دائمة الخضرة. حتى أن النار التي ورد ذكرها لديه من النوع البارد و المسالم و الخامد.
لقد كان كلاهما نسخة مختلفة من قصيدة واحدة هي القصيدة الحديثة. و لئن اختلفت الألوان و الخامة ( بتعبير الفن التشكيلي ) فهذا مرده إلى تناذر فوبيا- ت ( بصيغة الجمع ) نتيجة التسرع في تفسير أسباب السقوط، و بشكليه : الإلحادي و الإيماني. الوطني و المرتبط بأغلال البشرية. أو الإقليمي و العالمي. و أخيرا : المتوسطي و الرافديني. و من هنا استحق علي الجندي أن يحمل لقب ( أبو لهب ) ، و أن يحمل أديب كمال الدين أوزار لقبه المعاكس ( الحروفي). و هذا لا يساعد على تقريب وجهات النظر بقدر ما يساعد على تأسيس منطقة عزل. منطق ( طظ ) المتهكمة و المتطيرة ضد منطق ( قل ) التعبدية و المشتقة من مطالع آيات مكية من القرآن الكريم.
إن بطل قصائد أديب كمال الدين خاسر و يحمل كفايته من الأحزان و الرضات النفسية مثل سيد الشهداء الإمام الحسين، أقله مثل سعيد مهران بطل اللص و الكلاب. و هو في معظم الحالات يعكس كل أعراض شارل فورنييه عن أهوال الحصر. فهو حائر و لا يمتلك زمام نفسه . يشك حتى بمنقذ البشرية من طوفان دنسها و فجورها، و يتقلب على جمار مشاكل ميتافيزيائية. و ربما كان هذا هو المبرر له لأن يختار شكل القصيدة الدائرة، التي تكرر موضوعها و تقنياتها و عددا لا بأس به من الصور و التراكيب. و نحن نعلم أن هذا يؤدي إلى حالة تثبيت طفولي، و لا يكون الحل إلا بواسطة تعازيم لها بنية أداء طقس تهدف لاستبعاد الوساوس الملحة، و مكافحة مشاعر الصعوبة و الكبت، كما هو حال أناشيد أخبار المعنى ثم مواقف الألف. ( انظر لوحة الأمراض النفسية لشارل فورنييه و رفاقه - ترجمة وجيه أسعد - ص 219 و ما بعد). فالتعازيم و لو أنها ذات منشأ ديني أو أنها ترافق الأموات في دربهم نحو العالم الآخر، تهدف إلى تعزية النفس الضالة و القلقة ، ثم تهدئة أقران الميت و أقران روحه الهائمة التي استردت حريتها من عالم الصور. بنفس المنحى النفسي لأم تحضن طفلها المجهول و غير الواضح.
و لا شك أن هذا النوع من الحداثة المؤمنة، كان يسير بعكس الاتجاه. فلا هو مع التفسير القومي لمكامن الخطر السياسي، و لا هو مع التفسير الرومنسي للأخطار التي ضربت الهوية الخاصة للمجتمع الشرقي.

3.

هنا تفيد المقارنة مع شيخ الرابطة القلمية ، الشاعر النبي ، جبران خليل جبران. لقد اختلف عنه أديب كمال الدين في الجو و الاتجاه.
من ناحية لم يكن مثله ضد مثلث تابو المؤسسة: الدين - المجتمع - اللغة، و كانت ثورته عامة. ليست موجهة ضد طرف بذاته. و كان خطابه بعيدا عن الموضوعات. و اقترب من معاناة كل يوم. فهو لم يتحدث مثل جبران عن المحبة. و لكن تكلم عن لواعج عاطفة تتعرض للهدم و الإخصاء. و بعبارة أخرى: عن عاطفة محددة ضاعت منها أدواتها. و لم تسمح له معتقداته بإسباغ صفات ربوبية على الأب. و بالتالي ركز كل إشارته السلبية على المجتمع الربوي. و لم يوظف أدوات الخطاب و لا التراكيب لتكون بمثابة ستار يخفي رغبته في قتل الإله و الجلوس على كرسيه. سواء بشكل جدة قضيبية عظيمة ( كما فعل ماركيز )، أو بشكل رسول يحتكر الوساطة بين الأب - الإله و سائر البشرية ( كما فعل جبران). و اختار معنى سياسة استيعاب العام و الشامل للجزء و للخاص. لقد طبق أكسيوم حادث ينفصل بقوة الإرادة عن قديم. أو عن نقطة. و هي هنا الذات الإلهية التي تعتبر أصغر وحدة منشئة. و لا يمكن تجزيئها.
لئن رفض جبران فهم الإله الكنسي ( بتعبير أسعد دوراكوفيتش - نظرية الإبداع المهجرية - ص 82 )، و استعاض عنه بتفسير شخصي من اتصال خيالي بالإله - و لنفهم ذلك التخاطر بواسطة الوحي، تمسك أديب كمال الدين بكل معايير هذا الذهان المقدس. و تبنى معنى التبشير عن طريق القياس و الاجتهاد : بالمعاناة و قناة التواصل ذاتها. أو بلغة أوضح : عن طريق الخطاب نفسه و ليس أدواته. فهو لا يدعي أنه من صف الأنبياء و لا الروح القدس أو الملائكة التي لها شرف التكلم مع الرب. و لكن هو من بين الصحابة. و هذا هو السبب الذي لم يسمح له بتصوير رحلته في بيداء الروح وأصقاع العالم بصورة دخول ( و هو معراج الشاعر محمد عمران في قصيدته الخالدة الدخول في شعب بوان )، و لكن بشكل تأثر جزئي و موضعي ( كما يقول أسعد دوراكوفيتش أيضا عن جبران - ص 91). إن خيال كل الرومنسيين نبوئي و متمارض و يضع أصغر الأشياء تحت عدسة مكبرة لتجسيم و تهويل المعاناة، و لكن خيال أديب كمال الدين لا ينفصل عن عالم الضرورة. و لذلك هو سوداوي و كآبي فقط. و هذا يبرر لماذا بمقدور جبران أن يخاطب الأرواح و الأموات. و أن يعبر عالم البرزخ بحرية و كأنه يسافر بالطائرة بين بلدين في سماء مفتوحة ليس فيها تضاريس باستثناء الغيوم الحبلى بالأمطار، و لماذا لا يستطيع أديب كمال الدين أن يبتعد عن عتبات بيته. و إن فعل ذلك فهو يحمله على ظهره كأنه سلة خطايا تلاحقه أو لعنة كتبها عليه القدر. و يمكن تمثيل ذلك بالشكل التالي :


جبران : البحث عن مملكة الرب ← تأسيس يوتوبيا فاضلة ← مجتمع ثوري بلا طبقات .
أديب كمال الدين : البحث عن حدود المؤمن ← بناء البرج العاجي و مغارة التعبدات ← ثورة النفس الزكية.


و هذا هو الفرق بين شاعر - إله أو حتى وسيط إله، و شاعر صحابي، ينقل الرسالة و لا يخترعها. ليس لدى أديب كمال الدين قرآن خاص به. و لكن هذه هي ميزة جبران مؤلف ( النبي). و المسافة بين هذا الثنائي مثل المسافة بين تجسد الرب في الابن و الدخول في دائرة العناية الإلهية. أو تمثيل الرب كأنه هو، و تجسيد دروس الرب. و باختصار : الخلاف في كل تفاصيل المنهج حيث أن جبران يتصور أداة سحرية تنبع من قدرة الإنسان على اختراع الحلول، ليسخرها في تقويض و دك حصون واقع الحال، بينما أديب كمال الدين يخرج من المعركة و هو مثخن بشتى صنوف الجراح، و ينطوي على نفسه، و كأنه لا يرى حلا إلا بالعودة إلى الرحم ، للاحتماء من فوبيا المجهول. و النقطة المشتركة الوحيدة أن غاية الخطاب لديهما النصح و الإرشاد ( حال الفن الواقعي و التربوي ) و رأس السهم يتجه من أعلى لأسفل ( حال الفن الحديث النخبوي الذي يدعو لتحفيز الذهن على التفكير و حل المعميات ).
أما النقطة الثالثة و الأخيرة فهي خاصة بمسألة الأسلوب و الاتجاه.
و أرى أن ظاهرة أدب المقاومة التي تشكلت في الخمسينات و طرحت مبدأ الالتزام بمعناه السياسي و بالبروغاندا التي روجت لفكرة الكلمة المقاتلة و الفن المسلح، اضطرت لأن تنتقل إلى مبدأ ( التلازم)، أو فكرة الارتباط الوجودي بأسطورة الذات المعذبة و الغريبة عن محيطها. و هي نفسها الذات التي تعقل قضاياها الفردية في وجود مضطرب و جاحد و يكاد يشبه الجحيم. وجود من غير هوية، و يفتقد لأدنى الصفات و يحرض من خلال الوعي بالضرورات على المجابهة، و كأنها آخر صورة من امتحان البقاء.
و هكذا بدأت النار تخبو في هذا الاتجاه مع التأكيد على نقطة ثابتة و هي كشف حالة الشك المنهجي بالمحیط و بالفضاء العام، الأمر الذي اقتضى من شاعر من نوع أديب كمال الدين استبدال الصور الساطعة و المفردات ذات الرنین بصور رمادية ربما لیدل على طبیعة تجربته و على عدم ثقته بأدب النظام و لا بلغة الدواوین التي اعتادت على إنتاج الضمیر المتفق علیه  لهذا الأدب. و من  هنا نجمت ضرورات التضحیة بكل المقاییس و المواثیق التي یندرج  بها فن الشعر الرسمي تحت اسمه. و أنا أعتقد أن اقتران اسم أدیب كمال الدین بهذا الشكل الحر من الكتابة نجم بدوره من تجارب لأئمة التصوف ثم من بعض التجارب غیر المصنفة حتى بعد مرور حوالي قرن  عليها و التي أحاط بها الصمت و الإنكار، و لا سيما في حالة (أغاني القبة) للشیخ العلامة خیر الدین الأسدي، إنكار له نفس القهر و البشاعة التي أحاطت بحیاة ثم بمصیر متصوفة القرن التاسع للمیلاد و ما بعد. لقد اشترك  هؤلاء بالمعاناة من المصیر الذي كتبه التاریخ قبلهم لفئة سیاسیة متطرفة و هي الخوارج، و كان نصیبهم  عوضا عن الإقصاء أو التشرید أو كم الأفواه  هو الضغط لضمان إبعادهم عن المشروع الاجتماعي لتلك المرحلة. و على ضوء ذلك تطور شعر أدیب كمال الدین ليكون نقدا لاذعا موجها ضد النظام و الصور المعروفة التي یؤیدها . و هكذا كانت قصائده، و منذ منتصف التسعینات تقترب من التعبیر عن التحدي العاطفي و غیر المتهور لكل الأشكال النظامیة في الكتابة و في نفس الوقت للبنیة الصوریة الراعیة  لها ، وهذا یعني استبدال الجمل القصیرة ذات الإیقاع الداخلي الصامت و إجبار المشبه على الترادف مع المشبه به بطریقة المناجاة، و هي لغة أمومية و منفعلة و تقوم على أساس المبادلات بين الأم و الابن ( شارل فورنييه و آخرون - ص 96 )، و بالتالي لا يمكن أن ندرجها في عداد لغة الكهانة أو العرافة - لغة الإكليروس - الأب . إنها لغة وجدان و عاطفة تحاول أن تلغي المسافة المطلوبة بین الكلام و أطرافه: كالمرسل و المتلقي و السیاق. و أن تحول نشاط الذات إلى استعارة واضحة من الصعب محاكاتها  ولها مرتبة رمز أو مجاز لا ينضوي داخل علاقات التسلط و العنف و لا في علاقات الهیمنة المتبادلة ( بتعبیر خلیل أحمد خلیل)، كما في الصور الحسية المبتكرة التي تضفي على الجماد صفات بشریة. حيث أن للحروف جبینا و صوتا و أحاسیس و عاطفة ( وصية حروفية )*، و الشمس تنام و تصحو و تغط بالرقاد على سریر في بیتها العالي ( مديح إلى مهند الأنصاري )**. و يأتي ذلك بالتوازي مع تجربة لـ ( بطلة من هذا الزمان - لو استعرنا عنوان ليرمنتوف ) و أقصد رجاء العالم، و لا سيما في كتابها القصصي الهام سيدي وحدانة ( المركز الثقافي العربي - 1998 ). و فيه نوع من الترويج للجانب الذهني من وحدة الوجود باعتبار أنه خاضع لنتائج الثورة الكوبرنيكية في حركة الأجرام و الكواكب ، و ليس من الجانب العقائدي الذي يؤكد عليه أديب كمال الدين.
لا أعتقد أن قصائد أديب كمال الدين تتبنى هذا الافتراض. و هو ليس مع إليزابيث تيسييه في قولها إن: التنجيم دراسة للعلاقات بين البنية و حركات النظام الشمسي و انعكاسها على الإنسان. و أن أقدار و مصير الإنسان يحددها الشكل الهندسي و التمثيل البياني المبسط للمسكن الفلكي في منطقة الكواكب الثمانية مع إضافة الأجرام المنيرة و هي الشمس و القمر. على أن تكون الأرض مركزا لهذا التيار المتصل. بعد الأخذ بعين الاعتبار عامل مكان و زمان الولادة. ( ص 53). لو افترضنا أن هذا صحيح سوف يتساوى، إذا، بالمصير كل من علي الجندي و فرانسوا ميتران لأنهما من مواليد برج السرطان. أقله سوف يلتقيان في منتصف المسافة تحت خيمة هذا البرج المشؤوم. و لو اعتبرنا أن الرموز التي وردت في النص تدل على الشخصية الفنية للقصيدة لكان حظ كل هذه القصائد أن ترى النور في واحد من برجين إثنين: الدلو( 21 ك2 - 19 شباط )، أو الحوت ( 20 شباط - 20 آذار). و كلاهما من الأبراج الباردة و التي يمكن أن تدل على أخلاق فاضلة و منها الصبر و النجدة و غير ذلك. و في نفس الوقت تؤكد على أصل ثقافة غير نارية. و على اعتدال في مضمون مجموعاته الأولى ( التي تحمل هموم الرقم 5 - نصف الرقم 10 ). و شدة بأس مضمون مجموعته ( مواقف الألف ) التي تحمل مشكلة الرقم 13 توأم الرقم 25 .
و يمكن أن نفهم ذلك بضوء فقه أئمة التصوف مثل ابن عربي الذي يعتقد أن لكل موجود طبيعتين: مجال قائم بنفسه، و مجال جائز و لا يتأثر بجريان الأزمنة و لا تبديل المكان ( انظر الفتوحات المكية - ج1 ). و على الأغلب هو يفصل بين وجوب الشيء و جوازه. أو عالم الاختيار و عالم الثبات. و حجته بكل شيء رتق السماء و فتقها أو فصل العناصر و تميزها من حالة العماء، و التي هي حالة غمر بكل المقاييس.
و لقد كان من رأي ابن عربي أن برج الدلو هو مكان في مرحلة الهواء البسيط الناجم من ضم الحرارة إلى الرطوبة. و أن برج الحوت هو مكان أيضا في مرحلة الماء البسيط الناجم من ضم البرودة إلى الرطوبة.
و لكن لحسن الحظ إن قصائد أديب كمال الدين تشير للكواكب و الأرقام من زاوية طبيعية و معاصرة تضعها في محلها من الإعراب، و هي تبدو له مثل أسباب مسخّرة في وجود غير مقصود، و إن معناها يتحدد من خلال شروط الخلاص و ظروف المحنة و طبيعة الثواب و العقاب بما هي عليه من ضرورات و قيود و ماهية. و لذلك لم تكن هذه القصائد تميل لاستخدام المفردات المحرجة التي ترتبط بالكهانة و ما شابه مثل أن نقول "عين الماء " لندل على الآبار. و لم تذكر الرموز الفلكية الغامضة مثل التعويذة و أسماء الكواكب السيارة أو أبراج النظام الشمسي. و اكتفت بالإشارة للعلامات التي تدل على وجود حجاب تاريخي بين عصر المعجزات و عصر الواقع الملموس. على الرتق الثاني بين عالم الأرض و عالم السماء. و إذا تطرق أديب كمال الدين لمسألة الأفلاك و الأجرام السماوية يكون ذلك غالبا بصيغة خطاب لسرد يتطور على مستوى الحياة النفسية و ليس الميثولوجيا كقوله : أمسك الشمس بيده و القمر بشماله ( الرقصة - أقول الحرف ). أو قوله : أيها البعيد كهلال العيد - و القريب كهلال العيد ( العودة من البئر - نفس المجموعة). و قوله أيضا: سترقص بالفجر و الحب و البحر ( زوربا - نفس المجموعة).
لا شك أن الطبيعة ( و منها الكواكب و صفاتها ) جزء من الظاهرة الفنية العامة لهذه القصائد، حيث أنه يمكن أنسنتها بمقدار ما يمكن ترفيع الذات الضعيفة للبشر لمستوى صفات الذات الإلهية من خلال سلوك الكناية المعروف : إقامة حاجز يتصل و لا يفصل. أو ربط الجزء - مخلوق ، بالكل - خالق.
و أعتقد أنه بهذه الطریقة أكد على خصوصية مشروعه .فقد حاول الاستفادة من جو الكرامات الحسينية للدلالة على وحدة التجربة و على المعاني المتعددة للوجود الذهني و الخیالي و غیر المتناهي و الذي یسّر الحدود بین فنون الخطاب تمهیدا لإلغائها. إنه يجازف باعتبار العلاقات الواقعية مع المحيط حاسمة ( كما يرى شارل فورنيه و فريقه - ص 126 - علم النفس و ميادينه). و یمكن أن نلاحظ ذلك من عناوین أو تفاصیل مجموعته ( شجرة الحروف (التي تبدأ في  هجائها  للواقع من صور  لها وجود ملموس ( مثل الكلمات و الحروف و لغة الجسد ) قبل أن تنتقل إلى صور سوریالیة لا یمكن تفسیرها بالمنطق. و هنا يكون من المتيسر للشمس أن تبدو خضراء اللون ( كاستثناء عن القاعدة العامة لمجمل قصائده )، و أن یكون لون البحر أبیض في اللیل، و تكون الضحكة البشریة بشكل غیمة تعادي الطقس المشرق.

 وهذا ینسحب أیضا على كتابه ( مواقف الألف ) الذي تبدأ كل قصیدة فیه بمشكلة تهم الإنسان المجرد، وتنتهي بعلاقة كنائیة ذات مضمون روحي و نفسي فقط. أضف لذلك إكثاره من ذكر الموت لما ینطوي علیه من تهذیب للمكبوت و تقرّب من عالم الصور و المثل العلیا.
و كان دیدنه في  هذا  المضمار  هو ما فعله الأستاذ جلال صادق العظم في كتابه المبكر و المهم ( النقد الذاتي بعد الهزیمة)، الخاص بتفكیك العقل العربي انطلاقا من رؤیته لمظاهر التخلف و الفساد.
و هكذا قدم لنا أفكارا تتألف جوهریا من معاناة مع شرف الكلمة، و من الوقوف بوجه آلة البروباغاندا، و أخیرا من نواتج الضیاع الفردي الذي یعكس حالة عصاب عام.


إن أفكار أدیب كمال الدین هي  النتاج الطبیعي للضمیر الجماعي و المكبوت و للعذاب الناجم من ألم الفراق من جهة و مصاعب الرحیل من جهة أخرى. و هذا یرادف معنى انفصام الرابطة
detachment بالتعبير الأنغلوساكسوني المعروف، نتیجة تهدیم العلاقة غیر المشروطة مع الطبیعة العذراء و الدخول في أنقاض دورة إنتاج حربي ( إن صحت التسمیة )، ثم الانفصال عن أحضان الأم الطیبة أو الوطن الدافئ و السعید و الدخول في مرحلة من الشك و التشرد.
و تنفرد قصائد ( مواقف الألف ) في هذه المسیرة الشعریة بالبحث الدائب عن وسیلة الخلاص. و هذا هو بیت القصید: كیف نتعامل مع كوامن الحظر الاجتماعي و النفسي في هذه الحیاة؟.
و بما أن أدیب كمال الدین شاعر یضع ثقته بالمعنى المقدس للحروف، و هي لدیه ترادف الجوهر المثالي لتجربة الإنسان الضعیف و المخطئ ، فقد كانت الإجابة المنطقیة جاهزة و یمكن اختصارها في نقطتین: العمل و المعرفة.


و بهذا الاتجاه یقول :

 

اقتبستُ من النفري جملةَ البدء
ومن دمي جملةَ المنتهى.

 - ص 11.


و أعتقد أنه بهذه الطریقة وضع مبدأ الكلمة في نفس الموضع الخاص بالغايات، و الشواهد على ذلك كثیرة، منها قوله : ما كنت إلا حرفا - ص167 ، و قوله : كنت حلما و كنت بشرا - ص 62 ، و قوله : مصیري إلى التراب - ص . 16 و هذا یؤكد أن ضرورة الفن في الشعر مزدوجة و تراهن على طرفي المعادلة التي نبني علیها الأسس الثابتة للإستاطيقا .
و قد ربطت هذه العناصر غیر المحسوسة التجربة الفنیة و الواقع بأفق انتظار الشاعر بما ینطوي علیه من أحزان و منغصات، و ذلك عن طریق المعارف الخاصة أو ما یدعوه المتصوفة بتكالیف كل موقف و كل مقام. وهو ما یقول عنه الشاعر إنه فجر الحقیقة الساطع أو أبجدية النور - ص .12
وفي هذا الجو حاول إعادة النظر بمجمل أخلاق الواقع من خلال إلغاء عنصر التوتر من الدراما و بقیادة الصور و المضامین إلى نهایة مفتوحة و یهیمن علیها الشك الضروري بمنشأ القضیة و بنفس الاتجاه التصوف - مادي المبهم الذي یطلق علیه كولن ویلسون اسم ( الضیاع ). و لذلك لم ینضم لجوقة الإسلام السیاسي المبشر بصور مادیة للروح و الذي یدعو لتكلیف الجهاد بخطاب عسكري كما  هو حال محمد منلا غزیل في مجموعته ( الصبح القریب ) أو إبراهيم  طوقان الذي تبنى منطقا عسكریا أقل ما یقال عنه إنه یتصل برباط حمیم مع الذاكرة الشعبیة الكرنفالية، التي لها علاقة بأجواء الملاحم و السير، و بالأخص تمجیدها  لبطولات خارقة أو بطولات لأفراد انتحاریین یقتصر دورهم  على تغطیة الواقع بالشعارات و بأسلوب التنویم المغناطیسي و برومنسیات تدغدغ العواطف. و لو أن  هذا  مبرر في حینه لأنه یصب في اتجاه روح الثورات التي اقتربت من لحظة البزوغ، وهي في معظمها ثورات لصغار الضباط و المتكسبین ، لم یعد لذلك سند واقعي بالنظر للنكسات المتتالیة التي منینا بها. و موجز القول إن نكهة الواقع و رائحته واضحة في شعر أدیب كمال الدین و جوابه الوحید علیهما الانسحاب بالتدریج من معترك الحیاة و التمسك بأخلاق الزهد و العفاف ، أو ما یسمى بالجهاد الأكبر كما ورد في الأحادیث الشریفة.
و لم تكن لهذه القصائد علاقة مع المشروع الاجتماعي للدویلات الناشطة في المشرق و بالعكس كان لها أسلوب لا جدوى مخیلة ترقى لمرتبة جوهر. و قدم  لها ذلك مناعة ضد الأفكار الاستعماریة التي حولت الذهن لسجل میت یعكس مخططات غريبة و مستوردة.
و من هنا ضغط بشدة لإعادة تعریف دور الفرد في المجتمع بحیث أنه لا یكون ضمانا لمطلق الحالة، و لكن لیلعب الدور المبشر بما لیس  هو، و باعتبار أنه مجرد قرینة على طریقة تفسیرنا للواقع. و قد ترك ذلك فوق قصائده طبقة رقیقة من العواطف و الرومنسیات النبیلة و الطوباویة أحیانا. حتى أنه رسم أشخاصا ضعیفة و مهزوزة تدعو للإشفاق عليها، و تعبر عن الضمیر المظلوم و عن شروط الهزیمة. و هكذا لم تقع في مطب العنتریات و البطولة الجوفاء. و بذلك استطاع أن یتملص من أمراض التفاؤل المجاني الذي طبع بروباغاندا فترة الخمسینات. و ربما لهذا السبب لم یرسم الأنبیاء و لا الرسل و لا حتى أبطاله الأسطوریین وهم شاكي السلاح استعدادا لمصارعة أعباء الضمیر العام المكبوت، و على الأغلب كانوا في وضع سوریالي لا یؤیده المنطق للتأكید على عدم الانسجام مع الواقع الشخصي و مع الدور المناط بهم.  فالنبي یوسف ( علیه السلام ) مثلا يتذمر من تأخر والده في إنقاذه ) العودة من البئر )***.  و يقف البطل الملحمي جلجامش الذي كان بمرتبة إله و یستحق كل التمجید من أرجاء المعمورة كما ورد في الألواح التي ترجمها لنا طه باقر مهانا و جامدا و قلیل الحیلة في حدیقة المتحف ( دراهم كلكامش )****. و هذا على الأرجح السبب وراء صور الطبيعة في القصائد ذات المغزى العرفاني، إنها طبيعة مغلوبة على أمرها و ترزح تحت أعباء الطغيان النفسي و المادي. بعكس الصور الواقعية ذات الأشكال الجبارة و الشامخة التي تتحدى كل الاعتبارات، إن الطبيعة في الأدب الواقعي هي الرمز المباشر لتقوى العالم، لورعه و اعتداده بنفسه. و لا يتساوى معها إلا عزم الإنسان على ترويضها.
اللطيف في هذا الموضوع أن أديب كمال الدين يعقل الطبيعة بصفة أنها رمز تجريدي نرى بمرآته أنفسنا .. بما هي عليه من ضمن التجربة، صغيرة و منعزلة، و تكافح لتفسر العلامات المفروضة بقوة القدر أو المصير. و لذلك إنها ذات منشأ تكويني و لا تنحاز لأحد: لا للتفسير الأسطوري الذي يتغنى بتموز و بمواسم الحصاد و أزهار الربيع الحمراء أو سوسنة الأودية المذكورة في التوراة. و لا للطبيعة الصناعية التي يدك أساساتها دخان المصانع و يهددها زحف جحافل البشر و الحديد و محرك البخار.
و هذا أودى به للتركيز على الغراب و معالم الخرائب ( و كأنها الوجه الآخر للوقوف على الأطلال التي اندثرت - و كأنها أيضا ذات دافع ذاكروي ، يستعيد بالذهن ما يفضل أن يهرب منه في الواقع )، و الآبار العميقة الجافة على وجه الخصوص ( باعتبار أنها رمز للمدنس عند البشر و لقوة الظلام و للغيب)، و التيه المائي ( كخلاصة لمحنة الوجود، و للشعور بالحيرة تجاه الغمر المميت - و هو معطى أسطوري لدينا شواهد عليه: إما في الحفريات أو في نشاط الإعلام المرافق لإنشاء السدود الضخمة و أثرها على عمال التراحيل و السكان البدو ). لم يكن أديب كمال الدين جزءا من هذه الماكينة الفكرية الضخمة، و لذلك تجد أن صورة القارب التائه و المتمايل على سطح الماء من أهم العلامات التي لا تخلو منها مجموعاته.


لقد كانت هذه الصورة هي شمعته التي تبكي من قوة الظلام، و هي اللمسة الخاصة التي ترمز لأهمية البحث عن الخلاص و عن افتراضات فوق الموت. و قد اختار لذلك رمزا مؤثرا و هو شراع أبيض. قد يكون صورة تمثل الروح، أو أنه الرمز المتناهي لقوة الإيمان. و يجب أن ننتبه بهذا الخصوص لمعنى الأصل الثلاثي لكلمة ( شراع ) باللغة العربية. فهو في مختار الصحاح يدل على مورد الماء ، و الطريق ، و التساوي بين المذكر و التأنيث و الجمع و المفرد و الحركة و السكون. و فوق ذلك كله يدل على الأوامر و النواهي الإلهية. أو على مطلق جوهر و روح الدين ( ص 335 - منشورات دار الكتاب العربي ).
و هنا تبدأ القطيعة الثانية مع قانون المحاكاة. فالحداثة أساسا هي إنكار للعقل و للعاطفة و رفض للمجتمع. و هي أيضا بلا جوهر إيماني، لأنها من غير إله. و هي من نتاج الثقافة التي سماها نيتشة ثقافة ( موت الإله )، حتى أنها أيضا لا تؤمن لا بماضيها و لا بحاضرها و لا بقوانين المجتمع المنتج لها. و كما يقول هنري لوفيفر: مع الحداثة يبدأ المجتمع البورجوازي باستيعاب المفارقات المؤلمة و يشعر بعدم التطابق بين الفرد و النظام، أو بين نشاط الإنسان و الدولة و قوانين العمل. و هذا موضوع آخر.

شواهد من القصائد:
الغاية من النقد وعرض الكتب تحريض القارئ للعودة إليها و الاطلاع على ما ورد فيها. و لكن لمن لا تتوفر بين يديه النصوص الأصلية لسبب أو آخر أضع بعض الشواهد الهامة بهدف التوضيح.


* حين يجلسُ الحرفُ قبالتك - أصغِ إليه حين ينطق - و قبّلْه في جبينه المضيء


** شمسكَ أيها الراحل الباقي - ليست بالتي تنام - ولا تدري أتقوم غدا - من سريرها أو لا تقوم - ليست بالتي تلبس وجهين.


*** لماذا تركتهم يلقونني في البئر؟
لماذا تركتهم يمزّقون قميصي؟.


**** من يعرف كيف ضيّع كلكامش سرّه - ومن سرقه منه؟

 

 ويقول :

 أبحثُ عن دراهمي السبعة - في حياةٍ عابرة -  كلحيةِ كلكامش العابرة هي الأخرى - نحو غروب أثقل من الحجر.

 

كانون الأول 2011

****************************************************

نُشرت في مواقع أدب فن وكتابات والنور في  1 - 2 - 2012

 

 

الصفحة الرئيسية